خالد بن سالم الغساني
يشكل استشهاد رئيس أركان حزب الله، القائد هيثم علي الطبطبائي، الذي يُعد الرجل الثاني في الهرم العسكري للحزب، محطة شديدة الحساسية في مسار المُواجهة المفتوحة بين الحزب وإسرائيل.
ولا تكمن خطورة الحدث في فقدان شخصية مركزية فحسب؛ بل في غياب أحد أبرز العقول التي راكمت خبرة الحزب في إدارة الحروب والملفات الأمنية المعقدة. إنَّ رحيل هذا القائد الكبير يضع الحزب أمام مرحلة أكثر دقة في الحسابات، وسط اندفاع إسرائيلي أهوج، وثقة عمياء تغذيها مظلة الدعم الأمريكي التي تمنح سلطات الاحتلال شعورًا بأنَّ اللحظة سانحة لكسر التوازن أو إعادة صياغة قواعد الاشتباك.
ومع ذلك تكشف القراءة العقلانية أن ميزان القوى لم يتبدل كما يتخيله الكيان المحتل، ولا كما يحاول إيهام واشنطن ودوائر القرار في البيت الأبيض؛ فالحزب رغم الخسارات المتلاحقة واستهداف نخبة من قادته، ما يزال يمتلك من القدرات والخبرات والكوادر ما يجعل الرهان على ضعفه وهمًا لا يستند إلى واقع.
لقد أثبتت التجارب أن بنية حزب الله لا تقوم على فرد مهما بلغت مكانته؛ فالقائد هيثم علي الطبطبائي كان ركنًا أساسيًا، كما كان قبله عماد مُغنية ورفاقه من القادة الشهداء، وكما هو أمينه العام السيد حسن نصر الله. ومع ذلك فإن منظومة الحزب مبنية على تراكم الخبرات وتوزيع الأدوار، وعلى بنية تنظيمية قادرة على احتواء الضربات وتوليد البدائل، والمضي بخطط بعيدة المدى. وعليه فإن الضربة الإسرائيلية، على قسوتها، لم تُحدث خللًا جوهريًا في قدرة الحزب على الاستمرار. فالحزب ليس جسدًا هشًّا، إنه كما تحدثنا الوقائع على الأرض، مؤسسة عسكرية وسياسية متمرسة تدرك عمق الصراع وتدير خياراتها بوعي وحنكة.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه الضغوط الداخلية على الحزب؛ سواء من الحكومة اللبنانية أو من القوى السياسية التي تخشى انزلاق البلاد إلى مواجهة واسعة، يبقى الحزب محكومًا بضرورة الرد، ولو بحدّه الأدنى المحسوب. فمن غير الممكن أن يمر استشهاد قائد بمستوى الطبطبائي بلا إشارة واضحة تؤكد أن قواعد اللعبة لم تتغير. لكنه في الوقت ذاته لا يستطيع أن يمنح خصومه ما يطمحون إليه من خلال ردّ مُتسرِّع قد يجُر لبنان إلى حرب لا قدرة للدولة على تحمل تبعاتها، خصوصًا في ظل أزمات اقتصادية وسياسية عميقة، وجيش غير مجهز لخوض مواجهة مع إسرائيل. ولهذا، يسير الحزب على خط بالغ الدقة، يحافظ فيه على الردع دون المساس باستقرار الداخل.
وتبرز هنا قدرة الحزب على المزج بين الاستراتيجية والمرونة؛ إذ قد يلجأ إلى رد غير مباشر، أو غير مُعلن، أو يأتي في توقيت غير متوقع، وقد يعتمد وسائل تستهدف صورة العدو السياسية أكثر من الميدان العسكري المباشر. كما قد يختار ساحات أخرى لتنفيذ ردّه، بما يحقق الهدف دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة. وهذا الأسلوب ليس جديدًا؛ بل يمثل جزءًا أصيلًا من منهجية الحزب في إدارة الصراع خلال العقود الماضية.
في المقابل، تبدو إسرائيل مقتنعة بأن الضغط المستمر سيُنهك الحزب، مستندة إلى دعم "العم سام" الذي يمنحها مجالًا أوسع للمناورة. إلّا أن هذا المنطق يحمل مخاطر كبيرة، فقد أساء الكيان المحتل مرارًا تقدير خصمه، وظن أن الضربة القاسية كفيلة بتغيير المعادلات، قبل أن يفاجأ بردّ أكثر عمقًا وتأثيرًا. ورغم أن قيادة الاحتلال تعتبر استهداف الطبطبائي إنجازًا نوعيًا، إلا أنها تدرك أن الحزب قادر على تحويل الخسارة إلى فرصة لإعادة البناء وتطوير الأدوات، كما فعل في محطات مفصلية عديدة.
إنَّ استشهاد القائد هيثم علي الطبطبائي «السيد أبو علي» يمثل خسارة موجعة للحزب، لكنه لا يفتح باب الضعف؛ بل يفتح أبواب القوة والتجدد. فالحزب يمتلك من القدرات والجهوزية ما يؤهله للبقاء لاعبًا أساسيًا. والرد سيأتي، بالشكل والتوقيت اللذين ينسجمان مع معادلته الثابتة المتمثلة في حماية الردع، وتجنب الحرب الشاملة، والحفاظ على توازن الساحة اللبنانية. وفي هذا تتجلى قوته الحقيقية وقدرته على تحويل الألم إلى قوة، والخسارة إلى دافع لمزيد من الثبات.
فمتى يدرك الكيان المحتل أن سقوط شهيد يولِّد مئات المقاتلين، وأن غياب قائد في ساحة الشرف والكرامة يعني ولادة قادة جُدد يحملون الراية ويواصلون الطريق بعنفوانٍ أكبر؟
