الكاتب حمد الناصري
بدا على سعيد صراع داخلي، وهو من أصعب وأقسى الصراعات، أن يُصارع الانسان نفسه، تتنازعه الرغبات، بين القبول والرفض بين قرار واختيار وبين غريزة طبيعية وفطرية وبين تربية وعادات وقِيَم.. سلوك غريزي قد يُعرضه للخطر.. تحدث الفلاسفة والاجتماعيون، عن تلك الصراعات الداخلية للإنسان، بعضهم من يعتبره جزء أساسي من طبيعة الإنسان وعلاقته بالذات.. ولكنا نفسرها ـ هنا ـ بطريقة أعمق، فالصراع النفسي في البشر، صراع فطري موجّه إلى الوعي الذي سرعان ما ينقله إلى العقل ويترجمه القلب، فيحدث صراع داخلي، في الذات، ينتج عنه خلاف داخلي، ذلك الخلاف هو جزء من صراع طبيعي علاقته بالفرد / الإنسان.. ويعيش حالة تناقضات، وخلافات داخلية ومُعارضات نفسية.. أفكار/ مشاعر/ إحساس /رغبات / قيم.. يُصاحب ذلك توتر وقلق واضطراب.. فحين يرسل الوعي عوامل مشحونة بالقلق تتضارب الأهداف في اللاوعي و تكون المشاعر مُتناقضة بين العقل التي لا تستقر به المشاعر إلى القلب المُعزز بالرغبات وبالقيم ، وهنا يحسمها المنطق ناتجة عن تناقضات تؤدي إلى تشويش المشاعر فتصبح بين مجرى قلق الافكار ومرسى مشاعر الإنسان.
قرأت للفيلسوف جون ديوي، كاتب وفيلسوف امريكي، ويعد أحد رواد البراغماتية، فـ جون ديوي "يؤكّد على أهمية التجربة والمُمارسة في المعرفة.. ويرى انّ الصراع قد يكون الاعتقاد مصدر الصراع.." ونفهم من ذلك بأنّ الصراع غير مطلق، عند جون ديوي، وقد حصرهُ بين التجربة والمُمارسة في المعرفة.. ذلك أن الاتجاه الفكري قد يسمح بالاعتقاد، طالما المصلحة الذاتية قائمة، بمعنى مصدر للصراع الداخلي.؛
همهمَ بكلمات غامضة بصوت مُنخفض وتردد في قول لا يُسمع ولا يُفهم منها شيء، وبدا مُشتتاً وضائقاً صدره، يتمزّق، حائراً، قلقاً، ماذا يُمكنهُ أنْ يفعل، إزاء قيَم وعادات تربى عليها.؟ تقاليد استمدّها من قرية تمسّكت بعاداتها وقيمها وسلوك أهلها وتقاليدهم التي عاشوا عليها وبقوا عليها لا تبديل عليها.. فهل يجدر بي، الآن وقد اشتد عودي، أن تُغريني شهوة وتُنسيني غريزة تافهة، موقف قد لا أعقله، فمنذ صِغَري، ادعوا ربي أن لا أكون طاغية أو جباناً أو سافلاً او من الذين تُغريه توافهَ المُغريات والشهوات، فأنا استعيذ كل يوم من كل شرّ يُؤذيني، وأخشى من أيّ سلوك تافهٍ، قد يجرّني إلى موقف أو غريزة لا تعقلها ثقافتنا ولا واقع لها في أدبيّات مجتمع القرية، فالسلوكيات المُكتسبة وغير الرزينة يعتبرونها نشاز وتفاهة بل هي وحْل واضمحلال لا خير فيها.. والعاقل من اتّبع أهله وما تركوه وترفعوا عنه لهو خير من مُمارسات لا علاقة له بالإرث القويم.
بدا سعيد يُكوّن قاعدة حياتية في طرفه الآخر "كاترينا " كما شعرت " كاترينا " أنّ مشاعر سعيد حقيقية نحوها، وراهنت على دفعها إلى الاحسن والتقارب معه.. قُوّتان في داخل سعيد تتصارعان ، قوة تأمره بتناسي وتجاوز كل القيم التي تربّى عليها والأخلاق التي ترعرع وما التزم بها منذ نعومة أظفاره وضربت جذورها في جذور قريته التراثية التي وُلد فيها.. وقوة أخرى تشدّه إلى اجتثاث ما يُذكّره بها أو بتلك المبادئ التي آمن بها وجعلها منهاجًا لحياته.. ورغم أنّ سعيد كان دومًا رجلاً مُتمسّكاً بمبادئه لكنه أمام تلك الحسناء الفاتنة الأنيقة كان مستعدًا لأن يُلقي بكل أسلحته ويأتيها مستسلمًا ذاعنًا صاغرًا في ديوان حُسنها وجمالها الأخّاذين.. وفجأة وجد نفسه وقد شرد ذهنه واهتزّ إيمانه.. وتساءل في نفسه هل تُعدّ هذه من فِتنة النساء؟! شُعور عارم لا يَدري كنهه يُسيطر على عقله وجسده وهو مُستسلم خائر القوى، مُسترسل في غفلته وأحلامه حتى بلغ شُعورًا يُشبه النشوة الحسّية وتساءل سعيد في نفسه، تُرى ما الذي يحدث لي هذه المرّة؟ وما سرّ تلك الرغبة العارمة والتّوق الجسدي، وكأنّهما يسيران في خطّين متوازنين إلى حدّ جعله يتساهل في كل شيء؟ وقال في نفسه: ما بال تلك الوساوس تأتيني من كل جانب وتصفعني من كل حَدب وصَوب وتمنعني من التفكير القويم رغم حاجتي المُلحة.؟ وهل يعني ذلك، أنّي على حافّة هاوية؟ وهل أستطيع أنْ أصدّ أعين الناس عني، فلا ترمقني؟ وهل تقاربنا سوف يُغضب أهلي؟ سحب نفساً عميقاً.. وتمتم.. رغم ذلك، فأنا إنسان ولي مشاعر وحياة.. ولكني أراني أطيح بكل شيء وأرمي أسلحتي أمام فتنة الشَقراء، كاترينا الطويلة بوزن الريشة جميلة ورائعة.. ثم زاغ بعينيهِ إلى السماء.. لماذا الآن؟ لماذا؟ وقد بلغت بي الحاجة المُلحة إلى المال أكثر من أي شبقٍ آخر، تحسّس جيبه، فوالله وتا الله لا أملك في جيبي قطمير ريال.
وَراح يُملي نفسه ويُمنّيها.. إنّ رغبتي الجامحة في التقرّب من تلك الفتاة شيء مُختلف وأنا مُتأكد أنّ وِصَالي معها سيجعل الخير بين يدي، ولكني أحتاج إلى أن أتنفّس شهيقًا يملأ قلبي.. غلبته أحاسيسه ومشاعره العاطفية كلّما أسّس المنطق والعقل في نفسه الأمّارة بالسوء.. فهاجت مشاعره وطوّحَت رياح العشق بكيانه فتناثر بلا حولٍ ولا قوة، وراح يستذكر أيامه الأولى ونشأته في القرية الصغيرة، ذلك الجمال القروي الذي لطالما كان موجودًا أمامه، في خاصية القيم المُتوارثة، وتأمّل بالعقل الأشياء الأخرى ذات المعايير الثابتة، وتقاليد يوزعون إليها لا يُمكن الانفلات عنها فهي محلّ اهتمام المجتمع بها.. وتذكّر سعيد الحوز قريته وناسها، فاهتز قلبه عشقاً لماضيها ولكن.. قالها بضيق: ما أجمل الحنين إلى وادي جرفة، ذلك الوادي الذي تسمى تيمناً بالفتاة الحسناء نزوة.. ابنة الرجل الأول " يأدم " سيح بعيد الإمتداد مُوحش، خالٍ من أدنى نبات أو شجرٍ أو طير عابر، حتى الزواحف تكاد تكون معدومة او نادرة، إلا من الجان والعفاريت وكثبان قحيف.
تراءت له القرية الجميلة بأزقّتها وتراصّ بيوتها وألفة أهلها وتكاتفهم وتوادّهم وتقاربهم وضحكاتهم النقية التي تخرج من القلب بلا تصنع او تكلّف.؛ هزّ رأسه.. نعم في القرية كل شيء يختلف عن المدينة الصّاخبة بالضجيج وحركة الناس عليها.؛ ثارت في داخله رغبة زادت من هيجان مشاعره لكأنّ أغلى أمنياته أصبحت التمرّد على ماضيه ومبادئه، وكاد يَلين لحركاتها الخانعة، وأضحت مشاعره وأمانيه ورغباته مُنصهرة في بوتقة ترطيب لذّة الإحساس التي جفّت بقسوة الالتزام.. وتذكّر سعيد الحوز أغنية هاجت شُجوني والعُيون أهملني، لفنان العرب محمد عبده.. في تلك اللحظة أصبحت نفسه تتحكّم بكل جسده وباتَ العقل حيّزاً فارغاً منقطعًا عن الجسد بالطريقة التي يشعر بها، كما لو كانتْ ألغازاً، وكلمات غير واضحة تتحكّم في عقله، وتدفعه إلى اللاوعي وإلى التّيه ليدخل تجربته الجديدة؛ ولم تهدأ مخاوفه إلى حدود الإدراك ولم تتلاشَ، وأصْبح لا يرى إلا نوازعًا تجذبه إلى حيث ذلك الطّوق الآسِر.
سار سعيد الحوز إلى ناحية مكان قصيّ من أروقة الفندق الكبير، وتبعته تلك الصبيّة تمشي الهُوينىَ.. كما يمشي الحافي وقد رقّت قدمه من المشي، وهنا استعارت الصبيّة، قول الأعشى في مُعلقته بكل غنج ودلال وأنوثة طاغية.. ولكن بطريقة شاعرية مختلفة.. دَعْني أبا يوسف فإني لا أطيق وداعًا / غرامي مصقول وفي داخلي نارًا / جئتُ والعوارض تمشي وحدها / كأنّ في مشيتي يستحي جارًا/ ومشيتي مرّت سويعاتها على عجلٍ / والجار لا يعين بمن جارا / أُشْدد على قبضة ودعها / تسير كما سارت بلا كسلِ.
كان ذلك الشاب الأشقر ميلاد إبراهيم يُتابعهما من بعيد، وترك حرية الاختيار لها، بينما بقي هو برفقة الفتاتين الأخريين، وبدا سعيد الحوز لا يطيق فراقها، عشقها بعقله وفكره ولانَ إليها قلبه وانصاع إليها فؤاده وتمنىّ أن تذوب مُهجته في فيْها.. وفي سرّه تمتم.. صبيّة ناعمة، طولها ماتع ولونها آسر ومشيتها لا تخطئ ما عشقته فيها وما أحببته ظاهراً فيها.. وصف جمالها بدقة مُتناهية ولم يُخطئ وصفها أبداً.. طويلة كشعرها، رقيقة كخصرها، ليّنة كمشيتها، محبوبة بدلالها، ضامرة صافنة كالخيل السليمة لا عيوب فيها ولا هَزل مُعيب.. ثم قال كأنه يأتي بمرادفات لإحساسها.. حسناء بيضاء طويلة كالْتفاف حشوتها/ هُوينا بصوتها وفي انتقال مَشيتها/ لله دُرّها هي أنثى أم جوهرة السماء / أيزيد قُربها نوم العلالي أم يطول المساء/ أم تظل كمشيتها رقة وغنج ودَلاء/ ومن دَلوها تأتي الثمار عناقيدها كرمًا / شهية طيبة المذاق دالية العِنَبا.
بقيَ ينظر إليها والأحلام توقظهُ وتلمع في عينيها مُجبرة خاطره لتغيير المسار، فالسنوات العِجاف مرّت ونبضات قلبه لا تزال كسلى.. وعلى طاولة بسيطة، تنم عن إيتيكيت فاخر، تفاصيلها في الزينة الموضوعة إلى جانبها والأطباق وأدوات الأكل، لخلق أجواء ساحرة في المكان، ولرسم أهمية الإعداد الفاخر في أمكنة الفخامة اللائقة.. وحين أدرك أنّ الخطأ في الحياة واقع لا بُد منه، حرص على أنْ لا يرتكب أخطاءً، بل يستمر في بذل مزيد من التقارب، لعله يجد شيء آخر، غير ملموس، يختلف عمّا فهمه.. لحظتها، بدو بخمستهم كأصدقاء تجمعهم الألفة والمودّة.. جلسوا جميعاً مُقابل سعيد الحوز في صالة الفندق الفخم وهم يترقّبون ردّة فِعله أمام العرض المُغري.. قالت الشقراء الطويلة كاترينا التي لحقت به، وهي تحرك رأسها، تؤزهُ أزاً وتحثُه بأن يقول ما في داخله، وتُحرضه أن يقول شيئاً مهماً في علاقته بها.. وهمستْ: مالك سعيد، أخبرهم؟ لم يبزم سعيد الحوز بقول جافٍ او قاس.. لم يكن يُعجبه أنْ يُخبر أحداً عن خصوصيته، فمشاعره خاصة به وحده.. لا يُشارك مشاعره أحداً، إنها لغته الخاصة.. لا يعلمها إلا الشخص المرسلة له تلك اللغة، حين يُكشف له الغطاء وما يُدعى إليه، فحينها يستطيع، تأكيد ما بدا له او يمتنع، فالمهلكة سُقوط، تُسبب هلكة حقيقية وقد تُرافقه لسنين طويلة لا يعلم قَدْرها، وكأنّ ما تعطّل قد توقّف عن النّبض ولم يكن شيئاً مذكوراً أو حتى له وجود او ذِكْراً، بل كانَ نائماً في خيبة، فرفع جسده، وتموضع بإهتمام، إلى حدّ فطنَت إليه سَحر الرشيقة ذي الشعر الأشقر، وقرصت عينيها، قرصة لم يفهمها غيره وأردفت: لا تحاول التهرّب مِنّا؟ ابتسمت.. لن تقدر علينا.. أتْبَعتها بضحكة ههههه وتبسّم ميلاد إبراهيم وخولة السمينة من قولها، وتعجّب سعيد الحوز ومحبوبة قلبه كاترينا الطويلة، قالت السمينة، نحن نريدك معنا.. وسَنُعطيك ما تريد.
أطرق سعيد مفكرًا وتساءل في نفسه، هل ما يحدث له في الحقيقة فيه خير ونفع؟ أم هو موقف أشبهَ بالكاميرا الخفية؟ وسرى حديثاً في داخله حوار النفس للنفس، ماذا لو رآهُ أحد أقاربه أو معارفه.. كيف سَيُبرّر موقفه؟ ماذا يقول ساعتئذ، أيقول أوا أسفاه على ما فرّطت في جنب العادات والتقاليد وفي القيم السّنْعة وفي حق السّمت الأصيل.. نظر حوله ثم استرق لمحة من نظرات في وجه الفتاة الرقيقة الذي افتتنَت به أو بادلته الإفتتنان أو هو فُتِن بها.. وامتدت نظرته الى حيث مدخل بعيد عن أعين الناس، مدخل تبدو عليه كراسي وطاولات كُثر.. خُصِّصت للانتظار والراحة وقال في نفسه: ألا يستحق هذا الجمال أن أنسى الدنيا كلها لأجله؟
تحدّثت الفتاة الشقراء "مدائن " التي وقعت في حُبّ سعيد، ودافعت عن حبّها الأصيل ومنْ شغفها حُباً واستطردت: سعيد شاب طموح، طيّب القلب نقيّ السريرة، علينا مُساعدته، لا نُكلفه بشيء آخر، إنّي أقرأ في عينيه حزنًا ودموعًا خفيّة، ولذا يتحتّم عليّ أن أقف إلى جانبه، وألّا أختلف عنه.. قالت كاترينا بذكاء : دعونا، أنا وسعيد، نكتشف ما يُواسينا، وما يُبدّد حيرتنا.. لقد انصرف كلٌّ منّا إلى ذاته، فدعونا مع أنفسنا، في كلّ مِنا، ذكريات، وزوايا مرسومة لا يُطفئها ما يُحيط بنا ولا يمحوها ما نحتفظ به، فما لا ينفع لشيء، قد ينفع لشيء آخر.. دعونا، رُبما بعضُنا أقرب لبعضنا من بعضكم، فالندوب لا نُزيلها في جلسة واحدة.. وتحسين مظهرها لا بُد وأن يكون مُنسجماً مع المُحيط بها.. فلعلّ ذلك هو الخير.؛ فعقّبت سَحر مقاطعة، وكان لها صوت رفيع، فرفعت من صوتها وصدحت بأغنية من كلمات نزار قباني ولحن محمد الموجي وغناء عبد الحليم، العندليب الأسمر، عنوانها، رسالة من تحت الماء.. وكان صوتها دافئ وفيه عذوبة لا يقلّ عن عذوبة ودفء مشاعر الغناء وحنين الطرب الجميل، إني أغرق إني أغرق.. رسالة من تحت الماء، أغنية عاطفية، نقلت مشاعر الحزن المُعقدة بين المُتحابين أو المحبوبين، تميّزت بالإثارة والتعجّب والحيرة.. وأكملت.. إني أتنفّس تحت الماء.. إني أغرق.. أغرق ... ثم أعادت وكأنّها توجّه كلامها إلى سعيد الأشقر " إنْ كنت حبيبي ساعدني كي أرحل عنك أو كنت طبيبي ساعدني كي أشفى منك " وحين وصلت عند عبارة " لو أني أعرف أنّ الحب خطير جدًا ما أحببت، لو أني أعرف أنّ البحر عميق جدًا ما أبحرت " بكت وتغيّر صوتها.. وردّدت معها ثُنائية الصوت الجميل، خولة القصيرة، ذي الجسم المُمتلئ والتي لا تقلّ رهافة في الإحساس وعذوبة في الصوت.. وأكملت وكأنّهم جميعاً كانوا في نشوة الأغنية وسحرها وعذوبة كلماتها " إشتقت إليك فعَلّمني أن لا أشتاق، علّمني كيف أقصّ جذور هواك من الأعماق، علّمني كيف تموت الدمعة في الأحداق، علّمني كيف يموت الحب وتنتحر الأشواق"، وهنا وصل ميلاد إبراهيم أقصى ذروة النشوة الغنائية والمرح، وتمايل مُفرقاً ذراعيه، وأخذ يُحرّكهما كما لو أنه طائر، يرفرف بجناحيه، يُعَلّم طائرهُ الصغير كيف يطير.. وقد أجاد الدور بكل اقتدار، فدور الكُمبارس لا يقل أهمية عن الإيقاع فهو مساعد يُنشّط موجة الأداء والتفاعل، وأخذ يُصفّق ويُردّد كلمات الأغنية، ساعدته قُدرته على تنفيذ دور الإعادة لوجود مدّ طويل في صوته ونفسه لا ينقطع.
عقبت سَحر، شقراء يغمرها الغيظ من كاترينا، تلك الطويلة الحسناء التي تفوقها شُقرَةً وجاذبية ، وشعرت بأنها أخذت منها سعيد الحوز، وأردفت وقد توقف الغناء وخمدت الأصوات واختفت النشوة ، وبدا النقاش يدور في محور " سعيد الأشقر" وأردفت : يُمكنني قراءة لغة العيون بسهولة ، ويمكنني معرفة كل رمشة عين تُخفي وراءها الشيء الكثير، فأنا دقيقة في هذا المجال، بل أكاد أرى وأحسّ وأشعر جلّ نظرات الرجال المُتعطشة، فلا مأمن منهم، يكادون يأكلوننا بنظراتهم النّهمة، كالكلب تمامًا بل الكلاب خير منهم في كثير من الاحيان ، فالكلب وفيّ لصاحبه لكن الإنسان لا وفاء له ولا موثق .. ثم ماذا؟ تتوقّع أن يحدث.. يرمونك كما تَرمي الكلاب فضلاتها ثم تعود إليها مرة أخرى فتأكلها، فإذا كان الكلب نجس مرة فالإنسان نجس ألف مرة، ويتجلّى لنا ذلك في تعامله من الأنثى.. تلك هي حقيقة البشر، سلوكهم أسوأ من سلوك الكلاب.. وهي تنظر إلى كاترينا بحقد.. فهمتْ كاترينا بأنها تَعنيها وتُشير إليها فقالت كاترينا مدائن: تُرمى العظام للكلاب وترمي الفتيات نقصهنّ في غُرف مُغلقة، هي تعلم ماذا تعني لها غرفٌ مغلقة، تستتر بها عن أنظار الناس.. فلماذا إذاً في غُرف مُغلقة.. فلماذا لا تكون ...؟ سكتت مطّت بوزها وضغطت على شفتيها، وهوت رأسها كأنها تتوعّد أو تتوقّع أمراً مُشيناً.. وفي الحال، تحوّل ميلاد إبراهيم إلى مُصلح، وأخذ موقف المُنقذ من الجدل ومنع الاختلاف الكبير، وقتَل الفتنة في مهدها وقال، مُؤيداً فكرة الرجل الإنتهازي: الحقيقة الرجل الذي اشترى الحلوى، كان يأكل منها، وإذا وجد سعرها غاليًا، قال عنها: حلوى مُضرّة بالصحة، والمحل الفلاني غالٍ لكنه مُفيد إلى حدّ كبير، وإذا رأى لافتة أو لائحة محل كُتِب عليها حلوى.. انزوى إليها وأكل ما لذّ وطاب.. ثم يترك المحل وكأنه لم يذهب إليه برجليه، ذلك هو الرجل الشرقي بالضبط.
قالت القصيرة السمينة ذات الوجه المُكوّر، وأنا على يقين بأنّ نزوة الرجولة ستحترق بمجرّد تذوّق تلك الحلوى ثم يغوص الرجل في أحلامه المُنبتّة ويغرق في خيال مقطوع من جذوره..
ابتسمت بطريقة بها استهزاء واستخفاف، لم أُسمِّ أحدًا، ولم يكن في قولي تعريض بشخصٍ بعينه، ولا أحبّ التفكير في رجل ذو حُلم مُعطّل، فيعطّلني معه وما أنا بمعطّلة أبداً. لا أحبّ العيش في صراعات داخلية، لا أحب الدخول في علاقة مع شخص لمجرّد إعجاب دون أن أكشف عالمه.. أنا لست شبقة، وقلبي لا يتعلّق بمن ليس كفؤًا.. ردّت كاترينا بضيق: أنتِ تعلمين يا خولة بأني من بلاد النجمة البيضاء والهلال البدر، اتخذوهما عِزاً ورِفْعة وسُموًا، فالهلال والنجمة لا يزالان شعاراً ورَسْماً وطنياً منذ زمن بعيد، بلادي كانت يوماً إمبراطورية يخشاها الناس جميعاً، وقد صَمد الرسم والشعار ليُعبّر عن وطنية امتدّت من ذلك البُعد، الذي عُرف بإمبراطورية سادت العالم أجمع.. إمبراطورية الأتراك برجالها ونسائها وأطفالها الشُقر، ذلك الشُقر مَنبت الجمال، إمبراطوريتنا العظيمة تغذّت من صَيد بحر قزوين. وخُذي مني أيتها الفارسية العوجاء، ولعلك تتذكّرين شيئاً ما.. عن أفروديت قبرص العالية بتاريخها العميق، فقد قِيْل أنّ نشأتها امتدّت إلى أكثر من أحد عشر ألفاً قبل الميلاد، تخيّلي ذلك الرقم المُذهل، حضارة عميقة جداً، ولكن دعيني اختصر لك " لو كان في الكلاب خيراً لما ركبتْ على ظهرها القُرود " تذكروا جميعاً بأنْ الرّماد لا يَقلع العين من داخلها لكنه يُعميها" واسمعوا ما أقول.. السماء لا تمطر عِظاماً، تُعطىَ العظام للكلاب الحاقدة التي لا تسعى لتحقيق حياة تخلق المستحيل، والعيش الطيب لا يتقاطع مع الرزق السليم.. وأنا أعلم أنكم ستكرهونني وستقولون عني ما لم أقله وستقولون ما ليس لكم به عِلم وتقولون كذباً وزوراً وبُهتانًا وفتنة من عند أنفسكم.. وإنّي أحذركم، لا تكونوا بُؤسًا على غيركم ولا تكونوا سببًا لشقاء بعضكم.. اتركوا الناس في حالها كما هي، تسعى كيف تشاء وتعمل ما ترضى؟ لا تنظروا إلى سعيد الأشقر، كمنجم لحياة تسترقون لذّة طعمها.
إنّ فلسفة سعيد ثابتة " اغتنم فرصتك حتى تجد فرصة مثلها". ولا يُمكن لـ سعيد أن يبقى هكذا تحت رحمتكم حتى يُنفذ ما لديه.. سكتت.. ثم عادت للحديث مجددًا.. الإنسان في زمننا لا يُساوي ريالاً واحداً إنْ لم يكن لديه ريالات مِثْلها. وكذا الفُرص الذهبية قد لا تتكرّر، وتضييعها لنْ يجلب إلا الندم والخيبة والخسارة والأسف والتحسّر.
يتبع8