وسِّع عقلك.. زمن التحمُّل ولَّى

 

سلطان بن محمد القاسمي

في لحظة من العمر، تدرك أنك لم تعد الشخص الذي كنت عليه. تلك المرآة التي عكست ذاتك يومًا، تحمل الآن ملامح أقوى، أكثر وضوحًا وأقل استعدادًا للمساومات. تسأل نفسك: لماذا يجب أن أتحمل ما لم يعد يحتمل؟ ولماذا أسمح للآخرين بتجاوز الخطوط التي وضعتها لحماية نفسي؟ الحقيقة البسيطة هي أن زمن التحمل ولى، وحان وقت الوضوح والصدق مع الذات ومع الآخرين.

فحين تُبنى شخصيتك على قيم راسخة، تدرك أن التهاون في هذه القيم ليس تضحية؛ بل خيانة لنفسك. يقول الله تعالى: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمُ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 139). في هذه الآية، يذكّرنا الله بأنَّ العزة تأتي من الإيمان والقوة الداخلية، وأن الضعف أمام المواقف والأشخاص لا يليق بمن يحمل قلبًا مُؤمنًا ونفسًا كريمة.

ومع ذلك، لا يعني هذا أن تصبح شخصًا قاسيًا أو متعجرفًا، بل أن تفهم حدودك وتعرف قيمتك، فلا تسمح لأحد أن يتجاوزها. والحياة مليئة بالتحديات، ومع كل تحدٍ تتعلم أنَّ الخط الفاصل بين الاحترام والتهاون في الكرامة واضح جدًا. فأنت الآن في مرحلة تختار فيها علاقاتك بعناية. لذلك، تعلم أن هناك أشخاصًا يستحقون البقاء، وآخرين يجب أن يتركوا حياتك لأنهم لم يعودوا جزءًا من تقدمك وسعادتك.

تخيل أنك كنت دائمًا الشخص الذي يسامح ويتحمل، الذي يتجاهل الكلمات الجارحة والمواقف القاسية، فقط لأنك أردت الحفاظ على السلام. لكنك الآن تدرك أن هذا السلام لم يكن حقيقيًا، بل كان على حساب سلامك الداخلي. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ لَعَّانًا، وَلَا طَعَّانًا، وَلَا فَاحِشًا، وَلَا بَذِيئًا" (رواه الترمذي). هذه الأخلاق الرفيعة لا تعني أن نتجاهل حقوقنا، بل أن ندافع عنها برقي واحترام لأنفسنا وللآخرين.

ومن المهم أن تفهم أن الوضوح مع الآخرين يبدأ بالوضوح مع النفس. فعندما تعرف ما تريده وما لا تقبله، تصبح حياتك أكثر بساطة ووضوحًا. وتبدأ بوضع الحدود التي تحميك من التعدي العاطفي أو النفسي. خذ على سبيل المثال علاقاتك الشخصية، سواء كانت مع الأصدقاء أو أفراد العائلة. إذا كنت دائمًا الشخص الذي يعطي دون أن يتلقى، أو الذي يتحمل الإهانة دون أن يعبر عن ألمه، فقد حان الوقت لإعادة تقييم هذه العلاقات.

ومع مرور الوقت، تدرك أن التغيير ليس ضعفًا؛ بل هو ضرورة؛ لأن التغيير في طريقة تعاملك مع الآخرين هو انعكاس لنضجك؛ إذ إن الحياة قصيرة جدًا لتعيشها في محاولات إرضاء الجميع على حساب نفسك. يقول الله تعالى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج: 78). وهذه الآية تذكرنا بأن الله لا يريد لنا العيش في ضيق أو معاناة، بل أن نعيش بكرامة وسلام.

وفي العمل، قد تجد نفسك في مواقف تحتاج فيها إلى الوقوف بحزم. فمثلا، الزملاء الذين يستغلون لطفك، أو المدير الذي يطالبك بما يتجاوز قدراتك دون تقدير. هذا ليس وقت الصمت، بل وقت الحديث بوضوح واحترام. لا تخف من التعبير عن حدودك ومطالبك. فبالتأكيد القوة في العمل لا تأتي من القوة الجسدية، بل من قوة الشخصية والقدرة على الحفاظ على حقوقك دون إيذاء الآخرين.

وفي العلاقات العاطفية، يتجلى هذا المفهوم بشكل أعمق. فلا تسمح لشريك حياتك أن يستهين بمشاعرك أو أن يفرض عليك أمورًا تخالف قناعاتك. لأن العلاقة الصحية هي التي تُبنى على التفاهم والاحترام المتبادل، حيث يُقدر كل طرف الآخر دون أن يشعر بأنه مضطر للتخلي عن ذاته.

أما في المجتمع، فإنك تدرك أن لك دورًا كبيرًا في بناء صورة متوازنة عن نفسك وعن قيمك. لا تتلون وفقًا للمواقف، ولا تحاول أن تكون نسخة من الآخرين. كن أنت، بكل ما تحمله من عيوب ومميزات، لأن التميز لا يأتي من التشابه؛ بل من الأصالة.

وإذا تحدثنا عن الجانب الروحي، فإن علاقتك بالله هي الأساس الذي يمنحك القوة والثبات. وعندما تكون قريبًا من الله، تشعر بالسلام الداخلي الذي يجعل كل الأمور الأخرى تبدو أقل أهمية. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ" (رواه الترمذي). هذه الكلمات البسيطة تحمل في طياتها عمقًا كبيرًا. فكلما حفظت حدودك وقيمك، حفظك الله وبارك في حياتك.

ومن زاوية أخرى، التمسك بالوضوح في حياتك اليومية يفتح أبوابًا من الحرية، الحرية في اتخاذ قرارات تعبر عن حقيقتك، الحرية في قول "لا" دون شعور بالذنب، والحرية في بناء علاقات قائمة على الصدق. هذه الحرية ليست مجرد امتياز؛ بل هي حقك الذي يجب أن تُحافظ عليه.

وفي ختام رحلتنا هذه.. تذكر أن الحياة ليست اختبارًا لتحمل الآخرين، بل هي فرصة لبناء نفسك والعيش بصدق. الزمن يمضي سريعًا، وكل لحظة تضيعها في التحمل الزائد هي لحظة تفقد فيها جزءًا من نفسك. اختر أن تعيش بكرامة، أن تحب نفسك كما تستحق، وأن تحترم ذاتك بكل قوة.

وسِّع عقلك، واعرف متى تقول "لا" ومتى تفتح أبوابك للفرص والعلاقات التي تستحق؛ لأن زمن التحمُّل ولَّى، وبدأ زمن الصدق مع النفس.

الأكثر قراءة