الحدث.. بين الذي يفكر والذي يقول!

 

 

لا يوجد صواب واحد في التعامل مع حدث عنيف مبرمج بدقة لإيقاع الضرر الميداني والمعنوي.. الجميع صائب ولكل مقاربة ضرائب!

بناء الشفافية درع وحصانة متينة تمنع بعض الأخطاء الفادحة.. ومهما بالغ البعض في تزكية حصانته يظل الشعور بالأمان ضرورة أساسية

ما حدث في عُمان في الفترة الأخيرة يكفي لمُراجعة أشياء كثيرة.. لكن جميعها لن يشكل أثرا حقيقيا إلا بوجود التكاملية

 

معاوية الرواحي

تتولى مراكز الدراسات الاجتماعية والسياسية والنفسية المتخصصة عادةً تزويد الإعلام الحقيقي والحي بالمُعطيات الواقعية التي تصف حال أي مُجتمع، هذا عندما يكون البحث العلمي مترسخًا، وعندما يكون الإعلام حقيقيًا، وليس حزمة من الشعارات الجاهزة أو البروباجاندا السطحية، وفي غياب هذه الثنائية فإنَّ هذا التقصير لا محالة سينتج لديك ظواهر تعويضية بديلة، وتنافساً في قراءة الشؤون العامَّة، وصناعةً للفرضيات، وتصدير هذه الفرضيات للعموم الكبير المتعطش لفهم ما يحدث في واقعه المحلي.

تتسبب الأحداث الجسيمة، لا سيما تلك المرتبطة بالعنف، في ردود فعل ذات طيف واسعٍ ومُتباين، بل ومتضاد أحيانا. ومع العدوان تأتي ردات الفعل كُل حسب المدى الذي ينظر له. البعض ينظر للمدى القصير، فيبالغ في التكتم، والتعتيم ويدعو الآخرين للصمت! وهي سياسة بلا شك لا تخلو من الذكاء والحصافة، وتمنع العدو من استغلال أي حدث عنيف للتأثير على الروح المعنوية للمجتمع، أو لإيقاع الذعر والخوف في قلوب النَّاس! ولكن هذا لا يحدث دائماً، ليس في عصرٍ لم يعد فيه التعتيم ممكناً، وليس في عصر أصبحت الحقائق والأكاذيب تبث فيه بسهولة، وليس في عصرنا العربي الذي لا يستقي فيه الإعلام رؤاه، وتوجهاته من جهود بحثية وعلمية حقيقية، وإنما يستقيها من أبسط صناع الشعارات العريضة، وأكثر العموميات سطحية، هذا فضلاً عن التنصل من الأحداث العامَّة بحجَّة سخيفة أنَّ هناك دائمًا من يفهم أكثر من الجميع! وهذا وهم آخر لا أكثر!

لكل ردة فعل أهلٌ يظنونها صوابا، والحقيقة أنَّه لا يوجد صواب واحد في التعامل مع حدث عنيف مبرمج بدقة لإيقاع الضرر الميداني والمعنوي. الجميع صائب ولكل مقاربة ضرائب!

الذين نادوا بالصمت والتعتيم: موقفهم دقيق، ويُعزز كبرياء تجاه الصدمة، يمنع انتشار الهلع، بسبب الحدث لكنه سينشر شعورا عارما بفقدان الثقة، وبالخوف من المجهول على المدى البعيد، سياسة صالحة جدا للمدى القصير، ويمكن بعد أن يهدأ الحدث ويمر ويعبر أن يتم صناعة ملف ذهني متكامل لدى العموم الواسع لا من أجل الحدث، وإنما من أجل الفكرة المتعلقة به. صناعة وعي، وبناء روح نقدية عامَّة، وتهيئة للأجيال القادمة لتلقي معطيات الزمن الحالي والقادم، وروح معرفية متراكمة صافية في أي حال من الأحوال.

الذين نادوا بالشفافية التامة والوضوح التام: موقفهم دقيق، لكنه لا يناسب الظروف المقلقة على المدى القصير، فائدة ذلك هي الجاهزية الاجتماعية متكاملة الأركان، وضرره أنَّ العدو قد تكون لديه نقلات أخرى في رقعة الميدان، وهذا ما نراه قد حدث في الآونة الأخيرة، كانت لدى العدو نقلات وبيانات وضربات إعلامية يجهز لها ليوقع أكبر قدر من الضرر والأذى المعنوي، والذي هو نموذجه الرئيسي الموجه للمجتمعات.

الفئة الوسطية التي تقول فليكن كل شيء في وقته، وقت الحدث له ظروف ومحددات، وما بعد الحدث له ظروف ومحددات، تأخذ من الصوابين، وأيضا من الضريبتين، أمام الأحداث الحادة مثل الأحداث العنيفة تأخذ الأفكار أشكالا حادة وقاطعة ولذلك تفشل هذه الوسطية في إقناع أحد في منطقيتها، أو سلامة تأملها الانطباعي عن الحدث.

إنَّ المهمة الرئيسية التي يجب أن يتولاها الباحثون، أو الإعلاميون ذوو الخبرة، المرتبطة بجهود بحثية متراكمة إن لم يتم التأسيس لها من قبل تحدث لديك هذه المهرجانات من المحاولات المرتجلة. وكل يظن أن طريقته هي الأفضل! فما هو الأفضل حقا!

سيفرز هذا التفاعل صوابا مشتركاً، بشكل ما أو بآخر، صوابا منطقيا، وكل هذا لن يكون أثناء وقوع الأحداث، ولا بعدها، وإنما نتيجة كل التراكم النقدي الذي سيتولاه قلة من الناس الذين يشعرون بذلك الالتزام والمسؤولية تجاه عملية التعبير والنقد والكتابة وغيرها من أشكال الإنتاج الذهني بما في ذلك الفن والموسيقى.

بناء الشفافية درع وحصانة متينة تمنع بعض الأخطاء الفادحة، ومهما بالغ البعض في تزكية حصانته، ومهما بالغت بعض المجتمعات في الشعور بالطمأنينة، الشعور بالأمان ينتقل من حالةِ اليقين المطلق، إلى حالة اليقين المنطقي، فالذي كان يشعر بالأمان التام نتيجة إنجاز طويل المدى منع العنف الموجه من الحدوث، سيشعر الآن بالأمان بعد نظرة نوعية، وتمحيص، ورؤية نقدية، ولكي يكون هذا الشعور سيحتاج إلى ما يخاطب عقله لا إلى ما يخاطب عاطفته!

نعم، في حالات الأمان التام الخطاب العاطفي والانفعالي ينجح في إقناع المرء بأنه في أمان، وفي حالتنا في عُمان الأحوال آمنة: مذهبيا، وسياسيا، وعلى أصعدة كثيرة، ليست دولة عنف تجول فيها العصابات في الشوارع، وليست دولة مفككة يطلب منك الشرطي رشوة على هيئة سيجارة أو علبة بيرة لكي يسمح لك بالمرور ليلاً وأنت تركب تاكسي في الشارع. هذا الشعور بالأمان لم يكن يحتاج إلى منطق للاقتناع به، يكفي الإنجاز طويل الأمد بمنع العنف لكي يُصبح حقيقة لا يمكن مجادلتها، بل إنَّ أية محاولة حتى للتفكير في هذا الأمان وكأنها ستوقع الشؤم والنحس على قوانين مورفي، أو كما يقول البعض عن محركات السفن "ما دام المحرك يعمل جيدًا، لا تقم بتغيير أي شيء".

أشكال تفكير كثيرة أفرزها هذا الحدث في بلاد توصف بالهدوء، وكل أشكال الصواب وكأنها أخيرا اتفقت على الخطوط العريضة التي تتعلق بالسلام الاجتماعي، والمعلوم من العالم بالضرورة يقول للجميع إنَّ الحاجة لمراكز دراسات، والحاجة لإعلام حقيقي، والحاجة إلى صناعة حوض نقدي عمومي واحتواء رأس المال الفكري هذا مهمٌ لبرهنة مسببات الشعور بالأمان، الإنصات للناس لا يعني إنصاتا للحقيقة، ولا يعني أن ما يقوله الناس حقيقي، ولا ما يقوله الأفراد حقيقي، لكن أيضا، أن توكل هذه الأمور إلى الغموض، أو إلى تلاعب الإعلام الخارجي، أو إلى ظاهرة الأشباح الخفية والأسماء المستعارة، فهذا هو الضرر بعينه، لأنه لا يفسد الوعي النقدي فحسب، وإنما يفسد الحقائق ويقود لأضرار فادحة.

أحواض الوعي النقدي الاجتماعية لم تعد من الممكن أن تأخذ شكلا هرميا، هذا يخالف الطبيعة الجوهرية للوعي، وللنقد، وللتراكم المعرفي، وللتعددية في الآراء، إنها بؤر تتسع، تكتسب قوتها من قدرتها على صناعة المنطق المقنع، ومن الاختبار المستمر لهذا المنطق مع الأحداث الاجتماعية، ومع تطور الأحوال المعيشية، والاجتماعية، والاقتصادية. هذه الأحداث الاستثنائية فرصة لإعادة النظر في أية سياسة أو تشريع يظن أنَّ تعطيل الوعي الاجتماعي، ومصادرته، والاستحواذ عليه بمجموعة من الأدوات الاستبدادية سيقود إلى أي نفع!

العالم تفاعلي، وديناميكي، ومتحرك، ومتعدد الصوابات، والقيم الإنسانية العُليا لم تختلف في إيمانها بالسلام، وبالأمان، وبالرخاء، وبالتعايش بين جميع البشر. ولا رومانسية في ما يفعله العالم لتحقيق هذه القيم الإنسانية العُليا، فهو يفعل ذلك بالشر، وبالعنف المنظم من قبل الدول ويرفع هذه الشعارات بلا خجل أحيانا، ولا مثال أبرز مما يحدث في غزة يكشف لك كيف يمكن للقيم الإنسانية العُليا أن تخوض في بحار من الدم للدفع بالسلام الذي يأتي بعد المعركة! السلام الذي يحدده المنتصر طبعا!

أمام الأحداث الجسيمة، ستظهر تلك المجادلة الدائمة، أنَّ الكلام يحتاج إلى رخصة وإلى إذن، وهذا الاستحقاق الرقابي خطر للغاية لما قد يقود له من أخطاء فادحة قد تُرتكب ممن يظن أنه يفعل صوابا. قد يبدو التعتيم التام خياراً جيداً، وقد ينجح في بعض الحالات، لكنه عندما يفشل فهو يفشل بشكل ذريع، وقد يفتح للعدو أبوابا عديدة لجذب انتباه المجتمعات نحو عدوانه، فماذا نكون قد فعلنا وقتها؟ سلمنا للعدو ما كان يتمناه، وسمحنا له أن يوجه ضربته المعنوية بعد أن وجه ضربته الميدانية!

هنا تظهر أهمية لغة المواجهة، وهنا تكون الشعارات التي كانت سطحية مهمة، شعارات الوحدة، والمصير الواحد، وصون الوحدة الوطنية، وغيرها من الشعارات التي كانت يجب أن تبث وتضخ، أما أن تحدث مثل هذه الأحداث وتكون الأولوية البحث عن من يتم إخراسه، وإسكاته، ومناقشة حقوق الأفراد في تكوين رأي تجاه ما يحدث، من الأساس! هذا لم يكن ليحدث لو سار كل شيء على ما يرام، وهذا لم يكن ليحدث لو لم يكن هناك خطأ، في مكان ما.

ما حدث في عُمان في الفترة الأخيرة يكفي لمراجعة أشياء كثيرة، والأصعدة مختلفة، والطيف واسع، ثمة ما هو سياسي، وما هو اجتماعي، وما هو نفسي، وما هو إعلامي، وما هو ديني، وما هو ثقافي، بل وما هو فني، وما هو شعبي. كلها وسائل حصانة، كلها حماية ذهنية وفكرية، وكلها لن تشكل أثرا حقيقيا إلا إن كانت تكاملية، ومتفاعلة، أما سياسة الهرم، أو القطب الواحد، فهذه ليست أكثر من تعطيل عام لثروة معنوية ونقدية، وعواقب الخطأ فيها دائما وخيمة، وتجلب أضرارًا أحيانا لم يكن العدو نفسه ليفكر بها!