د. خالد بن حمد الغيلاني
Khalid.algailni@gmail.com
@khaledalgailani
منذ قديم الأزل والعرب تدرك أنَّ حرب أبناء العمومة أكثر شراسة، وأشد وقعًا، والشاعر طرفة بن العبد يقول:
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة // على المرء من وقع الحسام المهند.
فحرب البسوس استمرت قرابة الأربعين عامًا بسبب ناقة، وحرب داحس والغبراء لم تقل مدتها، رغم أن السبب لا يرقى حتى لمُجرد التشاجر، ولكن هكذا هي نزاعات أبناء العمومة تشتد وتكبر. وحينما مَنَّ الله تبارك وتعالى علينا- أعني العرب قاطبة- بالإسلام، كان الحرص على أن يكون الرابط بين بني الإسلام رابط الدين والمحبة، وأن تعلو أخوة الدين فوق عصبية الجاهلية.
وعند هجرة الحبيب المصطفى إلى المدينة بترحيب من أوسها وخزرجها؛ الذين دارت بينهم حرب طال أمدها، واستعر لهيبها، وأخذت من الحيّين ما أخذت. جاء الإسلام وأزال العداوة، وتحول البغض إلى أخوة ومحبة، وإيثار وحسن صحبة.
ساء اليهود هذا الود وهذه المحبة، وهم من كان أكثر المستفيدين من حرب بني العمومة. فأشار أحدهم يومًا كما تذكر كتب السير كسيرة ابن هشام والطبري؛ إلى غلام له وهو يرى الألفة بين القوم أن ذكرهم بيوم "بُعاث" وهو يوم مشهود بين القبيلتين قبل الهجرة. ومع وجود الرسول الهادي نبي الرحمة والسلام بين أظهر القوم إلا أنهم تداعوا للقتال، بعد اشتداد التلاسن بينهم، فقال صلى الله عليه وسلم قولته المعروفة؛ "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم". مثل هذه الأحداث لا تُذكر عبثًا، وإنما ليعتبر النَّاس منها، ويعلمون أن العصبيات لا طائل من ورائها إلا الشتات، وفساد الأمر، وسوء المنقلب.
وبعودة إلى تاريخنا العُماني؛ نجد أحداثا عديدة مماثلة تداعى القوم فيها إلى عصبية القبيلة، وسالت إثرها دماء، كان حفظها أولى وأجدى. ولا يخفى على الكثير أن هناك عصبيات أشد فتكًا من عصبيات النسب والقبيلة، وهي الدعوة للطائفية والمذهبية، هذه الدعوات والنعرات التي إن ظهرت في مجتمع أهلكته، وفتت عضده، وشتتت شمله، وأرهبت أهله، ولنا في العديد من الدول عبرة يعتبر بها أولو الألباب، ويراها ذوو البصائر والعقول.
المجتمع العُماني منذ أمد بعيد وعى أولو الأمر فيه وأهله لمثل هذه المخاطر والآفات؛ فتجنبوها وتركوها، لعلمهم بخطرها وشدة أثرها، ولبعد نظرهم، وحضور أفئدتهم بأن ما يجمع بين الناس أكثر مما يفرق، وأن الإسلام دين الأمن والسلام، و أن لا خير ولا صلاح إن ظهرت بؤرة تشد على يد داعٍ لمثل هذه العصبيات المذهبية المقيتة، والنار من مستصغر الشرر.
وجاء نظامنا الأساسي في دولتنا الحديثة المجيدة ليضرب بيد القانون النافذ على مثل هذه الدعوات العصبية المذهبية والتي لا مجال للتساهل مع من يفكر مجرد التفكير في إثارتها من قريب أو بعيد.
إنَّ عُمان الغالية في عصرها الحديث دولة عظيمة، وسلطنة مجيدة، أرسى دعائم الوحدة الوطنية والإخاء فيها المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله تعالى ثراه، الذي أشار إلى نقاء التربة العُمانية، ورفضها لكل عصبيات مقيتة، وحرصه على أن يجرم القانون كل ساعٍ لمثل هذه العصبيات، وأوكل أمر الفتوى في البلاد لعلماء عظام، يدركون أن اختلاف العلماء رحمة، وأن ما يجمع بين الناس أكثر بكثير مما يفرقهم، حتى وصلت مسؤولية الفتوى لعالم فذٍ، مجتهدٍ، صاحب خلق رفيع، وتواضع جم، له في قلوب أبناء عُمان منزلة عظيمة، ومكانة عالية، وهو الذي يفتح قلبه وجوارحه لكل أبناء الوطن على اختلاف المذاهب، فنال محبة العباد، وثقة أهل الحل والقياد.
وتولى أمرنا مولانا السلطان هيثم بن طارق المعظم في مسيرة خير مستمرة، ونهضة متجددة؛ ليؤكد على هذه الثوابت الوطنية، واللحمة العُمانية، لعلمه ويقينه- حفظه الله ورعاه- بضرورة الثبات على الأصول، والمحافظة على وحدة الكلمة والصف، فلا تنمية ولا تقدم ولا رخاء ولا استقرار ولا استثمار ولا تجاوز لأي تحدي اقتصادي واجتماعي دون خلفية مجتمعية متراصة ومتعاونة ثابتة على نسيج وطني متداخل تداخل المحبة والألفة والسلام.
وما يحدث هذه الأيام من إثارة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وإشادة من هذا لذاك، أو نقد من ذاك لهذا، وانقسام هؤلاء إلى فسطاطين كلٌ يدّعي أحقيته وواجبه وسلامة نيته فيما يقول، وكلٌ يَضرب على وتر المحبة والوطن، ورغم أنني واثق من وطنية الجميع، لكن واجبات هذه المواطنة تجاه هذا الوطن ترى مجرد الخوض وعبر حديث عابر في أمر المذاهب هو لعب بالنار، وفتح لباب شر لا يسد، وسعي نحو مسار لا تحمد عواقبه، ولا يستهان بنتائجه.
وما استعار النار في عديد من الدول بسبب هذه الفتن الطائفية والمذهبية، نار أكلت رطبهم ويابسهم إلا كانت في بدايتها تراشق من هنا ورد من هناك، والمتربصون كثر، فهذا يؤجج هذا، وذاك يثير ذاك، والبغضاء تنتشر، والعداوة تشتد، فكان ما ترون وتعلمون.
وهنا المسؤول الذي أعنيه وأخاطبه كل عُماني تربّى على السمت العُماني الذي يُضرب به المثل، وتخلق بالأخلاق العُمانية الرفيعة، وأقولها بصوت عالٍ: دعوها يا بَنِي وطني، دعوها فإنها دعوى جاهلية، وإنها نتنة لا خير فيها ولا صلاح منها، والفضاء المستخدم رحب منتشر؛ فالحذر الحذر.
ثم المسؤول الآخر الذي أريده ذلك المعني بحفظ الأمن والنظام، وتحريك الدعوى المجتمعية تجاه كل من يعبث ويثير مثل هذه الأمور ولو كان مازحًا؛ فالإدعاء العام جزء من سلطة قضائية متينة، ودوره في هذا دور من يرعى مصالح المجتمع، ويحفظ الحقوق.
وفي الختام.. لا مساس بوحدة الوطن وأبنائه، ولا إمكان لكائن من كان أن ينفذ من هذه اللحمة الوطنية، أو أن يفت من عزمنا، ووحدة صفنا، وسواءِ كلمتنا، فنحن أبناء عُمان جميعا من أقصاها إلى أقصاها، ديننا الإسلام من عهد النبي، كرامًا أوفياء من خير العرب، على قلب رجل واحد، خلف سلطان واحد، نعشق وطنًا واحدًا.
وأختم مقالي بأني فخور بسلطان البلاد المعظم، عزيزٌ بأبناء وطني الكرام، نقول جميعًا "يا ربنا احفظ لنا عُمان".