عمار الغزالي
أُسدل الستار على موسم خريف ظفار بمزيد من التألق والأرقام القياسية على كافة المستويات، فلربنا تعالى الحمد وله الفضل، أنعمَ على عُمان بموسم استثنائي مليء بمشاعر الأُنس والبهجة والجمال، وجزيل الشكر والامتنان لكافة الجهود الرسمية المبذولة، ولقد ازدان موسم هذا العام بمزيد من المحاضرات والأنشطة الثقافية والتي أضافت أبعادًا أخرى، فحاجة الإنسان لغذاء الروح والعقل لا تقل عن حاجتهِ لغذاء الأجساد، وكما قيل:
أقبل على النفسِ واستكمل فضائلها
فأنت بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ
وتزامنًا مع الموسم البهيج، تم افتتاح متحف ظفار الخاص برعايةٍ كريمة من صاحب السُّمو محافظ ظفار، حوالي 800 قطعة تخترق بالزائر حُجُب الزمان والمكان لتُسافر بالزائر إلى جيل خمسينات القرن الماضي، حيث الآباء والأجداد، كيف تفاعلوا مع الحياة، إنِّها قطع ناطقة إذا أحسنت التأمل والاستماع إليها، وكما يُقال:
وقد تنطق الأشياءُ وهي صوامتٌ
وما كلُ نطقُ المُخبرينَ كلامُ
المتحف رائع بكل المقاييس، من الفكرة إلى المحتوى والتصميم الذي راعى أدق التفاصيل؛ مرورًا باختيار الموقع المُناسب في قلب صلالة الوسطى بجانب البيت الكبير ومكتبة دار الكتاب العامة، حيثُ أزقة وممرات وشرفات وساحات تروي حكايات ماضٍ عريق، وذكريات مُمتلئة بالخيرِ والعطاء والجمال. فللهِ الحمد والشكر على هذا التوفيق والسداد.
وكما يُقال "ليس من رأى كمن سمع"، ولا عين اليقين كعلم اليقين؛ لذلك أترك لك عزيزي القارئ خوض تجربة الزيارة حيثُ المتعة والفائدة، كما أدعو القائمين على المؤسسات التربوية من مدارس وكليات بتنظيم زيارات معرفية إلى المتحف، فكما قال السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- "من لم يكن له ماضي ليس له حاضر"، وعملًا بتوجيهات جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله ورعاه بشأن الحفاظ على الهوية، لذا وفي عالم اليوم؛ أضحت صناعة المتاحف ذات أهمية اجتماعية وسياحية واقتصادية كُبرى، تتطلب المزيد من التمكين من الجهات المعنية لتؤدي دورها المنشود.
إن الاهتمام بالمتاحف جزء لا يتجزأ من دراسة التاريخ، والتاريخ خزانة العلم والأفكار، يُلهم الحكمة وفهم الحياة، لذا كان القرآن العظيم مليئاً بأخبار القرون الأولى كما قال عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي: (عندما اقرأ القرآن أشعر كأنَّ التاريخ البشري يجري أمام بصري)، وكم قصّ النبي الأكرم على جيل الرسالة من قصص وأخبار لأخذ الدروس والاعتبار ولفهم سنن الله في الكون؛ حتى أضحوا منارات الخير والنور للعالمين، وكما يُقال:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر
ضاعَ قومٌ ليس يدرون الخبر
وإذ نتعلم من مكونات المتحف لا يفوتنا أن نستلهم من سمات المؤسس، فلابد للبُنيان أن يدُلَ على الإنسان؛ حيث قامة الشيخ محمد عبدالمحسن سالم السيل الغساني، وإسهاماته الخيرية والمهنية والرياضية المتنوعة فقد جمع الله له ما تفرق في غيرهِ وذلك فضلُ اللهِ يؤتيه من يشاء.
من يعرف المؤسس يرى اللين والسكينة ممزوجًا بالوضوح والصلابة في المواقف، يُؤثر فيك بالسمت والأفعال قبل الأقوال، وهكذا الموفقين من أهلِ السداد، وكما قال أبو العتاهية:
وخيرُ الكلامِ قليلُ الحروف
كثيرُ القطوفِ بليغُ الأثر
يقولون إن العظيم لا يخبرك عن عظمته؛ بل عن عظمتك، تفهم هذا جليًا عندما تحاور المؤسس، فهو مُربٍّ مُحفِز من طرازٍ عالٍ، يستمع ويُشيد ويشحذ الهمم ويُثير فيك تساؤلات الإنسان الذي جعله اللهُ تعالى خليفة، وعن دورك الإيجابي في البناء والإصلاح وفق المُستطاع، يُحرك فيك قول الإمام علي بن أبي طالب:
تحسبُ أنك جرمٌ صغير
وفيك انطوى العالمُ الأكبر
وهذا الدور بلاشك قدر المُتاح لُكلٍ منِّا، إذ كما جاءنا البيان واضحًا من ربِ الرحمةِ والعزةِ والجلال سبحانه: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 286)، و"لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا" (الطلاق: 7).
والبيانُ تخفيفٌ عن ما لا نستطيع، لكنه تكليفٌ بما نستطيع، والمسألة تحتاج إلى تأملات في أعماقِ الذات، ما هو وسع كل واحد منِّا ليقوم به، ثم بعد ذلك نحيا بالرضا والطمأنينة بغض النظر عن النتائج، فلهذا الكون ربٌ عظيمٌ إليهِ يعودُ الأمرُ كله وهو على كُلِ شيءٍ قدير.
ومن سمات المُؤسس القُدرة على إضفاء المرح وروح الفكاهة وفن النُكتة، وكم وظفها في تحسين الأجواء وتقريب وجهات النظر وجمع القلوب وتطييب الخواطر، ومعلومٌ هذا عند معارفه وزواره ومُحبيه، وبمجرد المُجالسة تسري إليك الطاقة وتنتقل إليك عدوى التفاؤل والأُنس والانشراح؛ فالحمدُ للهِ على ما أنعم وأعطى.
ولا أجد أجمل من كلمات الشيخ صلاح سالم السيل الغساني (أبو نزار) حين عبّر عن نضج التجربة وروح المُبادرة وتراكم الخبرة عند المؤسس فقال:
حامل لواء الخير من ستين عام
رغم الشدائد ما تزحزح عن مساره
في حضوره صفق العالم وقام
المجد له رايات وأبو حمزة شِعاره
جزى الله المؤسس وأبناءَهُ الكرام خير الجزاء، وأعانهم ووفقهم في إدارة هذا المشروع النافع الماتع، وباركِ اللهم في جميع الجهود الصادقة لنفعِ الناس، وتقبلها صدقهً جاريةً "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا" (إبراهيم: 25)، تَملأ الصُحف وتُثقِل الموازين ليومِ الفصل الأكبر، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
ما قيمةُ الناس إلا في مبادئهم
لا المالُ يبقى ولا الألقابُ والرتبُ.