رحلة العبور إلى المستقبل

البوابة (ب).. الوعي المجتمعي والاستحقاق الانتخابي

 

عمار بن حامد الغزالي

 

اتَّفقنا في أولى حلقات هذه السلسلة على أنَّ طائرة عبور بلادنا إلى المستقبل -حيث محطة الوصول "رؤية عُمان 2040"- يُمكن الوصول إليها عبر عدَّة بوابات، يقصُدها ويعبر منها ويقف على حراستها المُواطن بمختلف مسؤولياته.. وإن كانت الظرفية -في لقائنا الماضي- اقتضت أن تكون البوابة (أ) هي الجهاز الإداري للدولة؛ تماشياً مع صدور مدونة "قواعد السلوك الوظيفي"، فإنَّ بوابة "الوعي المجتمعي" جاءت تالية رغم أنَّها من المفترض أنَّ تكون أوَّل ومنتصف وآخر بوابات العبور الآمن لأي خُطة أو رؤية أو إستراتيجية تستهدف "الأفضل" بشكل عام؛ فوعي المُواطن يُمثل قِمّة الضَّرورات في أي وقت وفي كل حين؛ فهو الضمانة الحقيقية للارتقاء -إذا ما آمن المجتمع بمسؤولياته ومُفردات ما صيغ له من خارطة طريق- فحق المواطن في معرفة ما يُرتب لمستقبله، وإشراكه في استشراف هذا المُستقبل ومهام تنفيذه وترسُّخ جدار الثقة بينه وبين دولته -ممثلة في الحكومة- يُولِّد لديه حافزًا يدفعه لا إراديًّا للانخراط في العمل الوطني؛ تُحرِّكه في ذلك مسؤوليته الوطنية تجاه رفعة هذا البلد والنهوض به.

وإذا ما اشترطنا وعي المجتمع كرهان في عملية بلوغ الهدف، فإنَّه كذلك مُعامل ارتباط في كل معادلات الفعل التنموي: التخطيطية منها والتنفيذية وما بينهما، ووعي المواطن في بلادنا -ولله الحمد- وصل مرحلة مُبشِّرة من النُّضج؛ لمسناها في مختبرات البرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي "تنفيذ"، وجلسات العصف الذهني لصياغة محددات وأهداف رؤية عُمان 2040، والآن تعكس صورها المشرقة اللقاءات الانتخابية السابقة على انتخابات مجلس الشورى في فترته التاسعة، والتي رسمت أبعادا جديدة بعثت بمؤشرات تحملُ الأمل وترفع سقف الطموح وتزيد من ثقة المجتمع بنفسه؛ استعدادًا للمُساهمة الحقيقية في صناعة المستقبل.. وهو السياق الذي تُعنى به هذه السطور.

فمُنذ إعلان القوائم النهائية لمرشحي الدورة الجديدة، وبدء الدعاية الانتخابية، ومع أول تجمُّع انتخابي، قدَّم المجتمع العُماني مثالاً راقياً على مستوى التحضر والوعي، سواءً ما طُرح من برامج انتخابية واعدة (من المرشحين)، أو ما حملته مشاركة المواطن (الناخب) من رسائل إيجابية تؤكد قدرته على وعيه وقدرته على تحمُّل مسؤوليات المرحلة المُقبلة.. أُجملُها فيما يلي:

 

الرسالة الأولى: الجاهزية للعمل المؤسسي

فقد أظهرت التجمعات الانتخابية طوال الفترة الماضية، قدرة المجتمع -ممثلاً في أفراده- على تنظيم نفسه بنفسه، مع مُشاركة كافة الفئات العمرية ومن مختلف أطياف المجتمع -رغم غياب دور مؤسسات المجتمع المدني- والانتقال من الجهود الفردية المبعثرة إلى ثقافة التعاون والعمل الجماعي المنظم، فترى هذا جليًّا أخي القارئ الكريم في تجمُّع صلالة الانتخابي، وما تمخضّ عنه من حوارات تنموية عالية المستوى، وهذا ما لم يتأتَّ دون استيعابٍ مجتمعي عميق لأهمية الحوار الراقي والمسؤول الذي يُؤمن بتعدد الآراء واحتواء اختلاف وجهات النظر، والتفريق بين الثوابت والمتغيرات، وبين التحديات الرئيسية والتفاصيل الفرعية، والقدرة على بناء أرضيات مشتركة.

 

الرسالة الثانية: الفاعلية والمشاركة الإيجابية

فالمواطنون خلال هذه التجمعات أثبتوا قدرتهم على بث روح الفاعلية والمشاركة الإيجابية، ونبذ التذمر والسلبية، رغم التحديات الظرفية التي تواجه اقتصادنا الوطني.

الرسالة الثالثة: الوعي بمبادئ الحوكمة 

فإذا كان لرؤية عُمان 2020 أولوية استكمال المنشآت والبُنى الأساسية؛ فإنَّ لرؤية 2040 أولوية الارتقاء بالأداء في ظل عالمٍ سريع التغيُّر شديد التنافسية؛ ومن أجل ذلك كان محور حوكمة الأداء هو أحد المحاور الرئيسية ضمن الوثيقة الأولية للرؤية، وهذا المبدأ ظهر جليًّا في تجمُّع صلالة الانتخابي أيضًا، الذي استوعب جيداً مبادئ الحوكمة، وطبقهّا عمليًّا من خلال آليات المفاضلة بين المترشحين من حيث العدالة والنزاهة والوضوح والشفافية وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص.

 

الرسالة الرابعة: الواقعية في الطموح

فخلال مُتابعتي للعديد من التجمعات الانتخابية، لمستُ وعيًا مجتمعيًّا حقيقيًّا لسُنن التحوُّل إلى العالم الأول؛ وإيمانًا مترسخًا بأنَّ النهوض التنموي إنما هو النتيجة الحتمية لفهم الواقع والفرص المتاحة والبناء عليها، مُقابل قلة قليلة لم يستوعبوا بعد النواميس الكونية، فيظنون ألا جدوى من المُشاركة، ما دامت الأمور "لا تمشي على هواهم".

الرسالة الخامسة: التدرج في الإصلاح

أظهرت التجمعات الانتخابية كذلك وعيًا بأنَّ طبيعة العمل التنموي معُرض للخطأ وقابل للنقد، وهذا يقود إلى التدرُّج في الإصلاح والاستمرار في التحسين المُستمر.. ومن حُسن الطالع أنَّ من خصوصيات منهج "الشورى"، أنَّه يملك آلية الإصلاح الذاتي من خلال إعادة التقييم وفرصة تجديد الدماء بشكل مستمر.

.. إنَّ وعيا مجتمعيا بهذا الرقي والفهم العميق لمتطلبات المرحلة، إذا كان مبشراً على مستوى المواطن (الناخب)، فإنَّه يضع على عاتق المواطن أيضًا (المرشَّح)، أمانة الوفاء بما قطعه على نفسه من وعود، وتحسين جودة الأداء تحت قبة البرلمان بما يُكافئ آمال الوطن في المرحلة الحالية والمُقبلة، كما يُحتم أن يكون شعار المرحلة "التكامل بين السلطات" نحو مزيد من التمكين للمجلس الذي يختزل كل أطياف وبقاع الحبيبة عُمان. ولقد أثبتت الدراسات أنَّه كلما زادت فاعلية البرلمان، ارتفع وعي المجتمع وتفهمه للتحديات الوطنية واستعداده للبذل والعطاء.

إنَّنا اليوم ونحن على أعتاب استحقاق انتخابي بالغ الأهمية في مسيرة البناء الوطني، فإنَّ التفاعل والمشاركة في اختيار المُمثلين هما الوجه الآخر لهذا الوعي الراقي، على العُمانيين أن يجسدوه على أرض الواقع، بالتوجه إلى صناديق الاقتراع أفرادًا وجماعات لاختيار الأكفاء، من أجل عُمان نبنيها جميعًا، وتدفع مؤسساتها -التشريعية والتنفيذية والرقابية- بقاربها الميمون نحو مصاف الدول المتقدمة؛ ولاءً وعرفاناً للوطن ولباني نهضته الحديثة على ما وجَّه به وأصَّل طوال مسيرة النهضة المباركة لمبدأ الشورى، كنهج إنساني إسلامي متجذر، وجزء لا يتجزأ من حقوق وواجبات المواطنة، وكتعبير أصيل في حق الجميع في المساهمة الحقيقية في البناء.

فلتمضِ عُمان على بركة الله، إلى مستقبلٍ زاهر ودولة مؤسسات تكلؤها بعين الرعاية بصيرة ثاقبة لقائد حكيم.