رحلة العبور إلى المستقبل

 

البوابة (أ).. الجهاز الإداري للدولة

 

عمار بن حامد الغزالي

نقفُ اليوم في عُمان على بُعد 70 يومًا تقريباً من خط التماس الفاصل بين بوابتيْ الوصول والمُغادرة إلى المستقبل، والمحدَّد لهما زمنيًّا الثانية عشرة منتصف ليل الأول من يناير المُقبل، ومكانيًّا قاعة انتظار القادمين من "عُمان 2020"، والمُواصلين رحلتهم إلى "عُمان 2040" على متن خطوط "مَصَاف الدول المتقدمة".. ليقف العُمانيون مُترقبين بأُذنٍ لَحظة التوجِيه بربط أحزمة مقاعدهم إيذاناً بالهبوط على أرض الواقع لإجراء مَسْح شامل وقراءات مُعمَّقة لما تمَّ خلال السنوات الخمس والعشرين الفائتة، والأذن الأخرى تنتظر النداء الأخير للإقلاع نحو المُستقبل، حاثَّة الخُطى على تطوير الأداء، ورفع مستويات الإنتاج والإنتاجية، وسرعة إنفاذ الخطط والإستراتيجيات، وتسخير الإمكانات لمُكافأة المتطلبات والأولويات، وسرعة أخذ الأماكن لمُواكبة المرحلة الجديدة بأفكار مُبتكرة تتعاطى مع الواقع التنموي للبلاد، وتعمِّق مستويات الشراكة بين الجميع، وتتبنَّى اقتصاد المستقبل القائم على المعرفة والذكاء الاصطناعي ونتاج الثورة الصناعية الرابعة، وتكافح الفساد والروتين والبيروقراطية، وتمكِّن الحَوكمة الرشيدة بمَبادئها -الرقابة والمساءلة والشفافية والنزاهة- وتتسلَّح بالإرادة الوطنية وتتجرّد من كل المُثبِّطات، لتندفع نحو بوابة الإقلاع بكل ثقة، نحو الصفوف الأولى لدول العالم المتقدمة.

.. طائرة العبور للمستقبل، يُمكن الوصول إليها عبر عدَّة بوابات، يقصدها ويعبر منها ويقف على حراستها المُواطن العُماني بالأساس، عاملًا وباحثاً عن عمل، وموظفًا، ومساعدًا، ومديرًا...وصولاً إلى أعلى درجات سُلم المسؤولية الوظيفية. وبما أنَّ هذا المواطن هو المنفِّذ والمستهدَف في الوقت نفسه؛ فإنَّ تفعيل إيجابيات هذا العنصر هو ضمانة الوصول الآمن.. وهو الهدف الذي ننشده من هذه السلسلة الممتدَّة حتى نهاية العام بإذن الله؛ لضمان صُعُود آمن، يجلس فيه المواطن إلى كرسيه، ساحبًا حزام مقعده، ومتكئًا على مسنده، استعدادًا لإقلاع عُمان بثقة نحو المُستقبل.

 

البوابة (أ)

وباعتباره الإدارة المنفِّذة لأهداف خُطط التنمية الشاملة والمستدامة في البلاد، يظل الجهاز الإداري للدولة وآلية تنظيمه، هي نقطة الارتكاز التي تتبلور حولها مُمكِّنات تحقيق أي رؤية تستشرف المُستقبل؛ وذلك للقيام بواجباته بكفاءة، والاضطلاع بأدواره تجاه المسؤوليات التي تقتضيها ظروف المستقبل؛ إذ لا يُمكن تصوُّر استطاعة أي دولة تنفيذ خططها وتقديم خدماتها للمواطنين ما لم يكن لديها جهاز إداري متكامل قادر على التنفيذ بالكفاءة المطلوبة.

ولدينا في عُمان، حظي الجهاز الإداري للدولة برعاية واهتمام ساميين من لدن حضرة صاحب الجلالة، طوال سنوات النهضة المباركة، وتحديدًا منذ الخطاب الذي وجَّهه جلالته لكبار رجال الدولة في العام 1978، وأكد خلاله أنَّ "الوظيفة تكليف ومسؤولية"، وأنَّ "على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوا نُصب أعينهم أنهم جميعاً خدم لهذا الشعب... وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص، وأن يتجردوا من جميع الأنانيات"، وأنه "لن يُقبل العذر ممن يتهاون في أداء واجبه المطلوب".. وعلى إثر ذلك، دُشنت العديد من البرامج الوطنية التي استهدفت تطويرَ أداء العاملين وصناعة الكفاءات. بَيْد أننا ولسنوات، ونحن نُقيِّم أداء موظفي القطاع الحكومي، يشد الانتباه هذا الانخفاض الملحوظ في الكفاءة لدى بعض الأجهزة، وتفاقُمها.

وكأمر بات معلومًا للجميع، يُعزى هذا الانخفاض إلى البيروقراطية والروتين، وجمود بعض اللوائح والتعليمات، وإصرار بعض الموظفين على البقاء "محلك سر" رافضين التطوير، ومُصرِّين على الاستمرار في اتباع نفس الأسلوب والإجراء ورفض كل جديد، ويتفاقم الأمر بانتقال هذه السلوكيات بـ"العدوى" إلى بعض الموظفين الجُدد، الذين يتكيِّفون مع أسلوب من سبقهم، حتى أصبحنا نجد نُسخاً مكررة، وصوراً "طبق الأصل"، واستنساخا لمنهجية عمل، ولكن على وُجوه مختلفة.

بدأنا نلحظ أجيالًا تتمسَّك بالقواعد وتقدِّس الإجراءات، وتنظُر إليها على أنها الغاية، وليست مجرد وسيلة للتنظيم أو مُعِين للإجادة وتحسين الأداء.. مُوظفون "جامدون" يُؤمنون فقط بالنظام والروتين، وغابتْ لديهم أي رغبة في الاستجابة لمتطلبات التغيير والتطور أو التكيف مع العوامل والمتغيرات التي يفرضها الواقع.. وبالمقابل، علا صَوْت المُطالبات بـ"اللامركزية"، واعتماد شمولية تقييم الأداء، وتعزيز الإبداع والتطوُّر، للارتقاء بمستويات الإنتاج والإنتاجية، وتطبيق أعلى معايير الجودة، وانحصرت أهداف هذه المطالبات في بوتقة "تهذيب السلوك الوظيفي للموظف"، وهو اليوم الحجر الذي نأمل أن تُلقيه في الماء الراكد، مدونة قواعد السلوك الوظيفي للموظفين المدنيين في وحدات الجهاز الإداري للدولة.

فالمدوَّنة كما أصَّلت للاجتهاد والأمانة والإنصاف، شدَّدت على الرُّقي بالإمكانيات والاطلاع الدائم والمستمر على المستجدات، وفتحت الباب أمام تقديم المقترحات التي تُثري بيئة العمل وترتقي بالخدمات.. وأبانت مسؤوليات الموظف وواجباته تجاه مسؤوليه، وتجاه مرؤوسيه، وتجاه زملائه، كما تضمُّنت إلزامه بتقديم "إقرار الذمة المالية" مُتضمِّنًا جميع الأموال المنقولة والعقارية المملوكة له ولأزواجه وأولاده القصر، ومصدر هذه الملكية.

وما يُعظِّم الآمال في هذه المدونة هو توقيتها -وإن كان متأخرًا- فشعار "مصاف الدول المتقدمة" الذي تنشده رؤية 2040، يستدعي تقييمًا حقيقيًا ومُراجعة جادة للأداء الوظيفي للجهاز الإداري للدولة، بهدف تطوير الناجح منها، والوقوف على سلبيات ما لم ينجح، ومعرفة المعوقات لتجنبها؛ فهامش الخطأ اليوم وغدًا ضئيل للغاية، خصوصا ونحن نواجه أزمة حقيقية أخرى يكشفها ضعف مردود برامج تطوير وتنمية الموارد البشرية، والتي يُنبئ لسان الحال بأنها لم تؤتِ أُكلها بقدر ما أُنفق عليها من مِئات الآلاف من الريالات.. إننا على أعتاب مُستقبل لن يَرحم أحدًا هذه المرة، ورحلة بلوغه تحتاج إلى جانب التخطيط مزيدًا من التنظيم، والتوجيه، والرقابة، والتي هي بالأساس مهام اختصاص الجهاز الإداري للدولة.. فكيف لفاقد شيء أن يُعطيه؟!!