د. محمد بن خلفان العاصمي
خمس سنوات مضت منذ تولي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في 11 يناير 2020، ولا داعي لسرد الظروف التي أحاطت بالبلاد حينها فالكل يعرف الأوضاع المالية والاقتصادية والسياسية، لكن كما هو الحال دائمًا؛ فالظروف الصعبة توجد العظماء، ولذلك انبرى لها جلالة السلطان- أعزّه الله- ولم يتردد في مُصانَعتها ومُسايَستها حتى استقرت على أرضها، ومرَّت الأيام الشداد والسنوات الصعبة على أحسن وجه، وتحسَّنت الظروف الاقتصادية والمالية، وهذا بفضل الله تعالى وحكمة القائد المُفدى نصره الله.
نعم.. كانت السياسات المُطبَّقة- خاصة المالية- شديدة نوعًا ما، لكنها أقل قسوة بمراحل عديدة من الوقوع في أزمات ارتفاع المديونية، مثلما حدث لعديد الدول. نعم.. كان لا بُد من الصبر على الكي ووجعه و"شد الحزام"، لكنه كان أرحم بكثير مما حدث في دول أخرى. ورغم ذلك عملت برامج الحماية الاجتماعية والإعفاءات للفئات المُستحَقَّة والسياسات التي أُقِرَت في سبيل مواجهة الأزمة، على تخفيف الأثر المُترتِّب عنها، كما أسهم نظام التكافل الاجتماعي العُماني بدور كبير في مواجهة نتائج هذه الأزمات، خاصة قضية التسريح، التي تسببت في مزيد من الضغط على الحكومة، ولكن بفضل الله ووعي المواطن العُماني الذي وقف مع قيادته من أجل مُستقبل أكثر استدامة، نواصل تجاوز كل هذه التحديات.
وإن كان لنا من نظرة سريعة على هذه السنوات الخمسة، لمشاهدة ما أُنجز على أرض الواقع، فإنَّ المجال يقصر لحصرها، لكن لا بأس من ذكر بعض من سمات هذه المرحلة التي تزامنت مع انطلاق رؤية "عُمان 2040" والتي أشرف على كل تفاصيلها جلالة السلطان المعظم- أعزه الله. والمُتابِع للخطط الاستراتيجية يُدرك حجم ما تُقدِّمه هذه الرؤية من إسهامات فاعلة، خاصة في الجانب الاقتصادي الذي يشهد تحولات كبيرة جدًا ومُتسارعة، وذلك بفضل التوجهات الاستراتيجية والسياسات المُنتهجة لرفع مستواه. وقد حظي الجانب الاقتصادي باهتمام كبير؛ حيث خصَّصت له الرؤية الوطنية "عُمان 2040" خمس أولويات في سبيل النهوض به، وما شاهدناه خلال السنوات الخمسة الماضية من زيارات سامية مكثفة لعديد الدول هو تعزيز لهذا الملف المُهم.
لقد وضع جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم نموذجًا آخر من الدبلوماسية العُمانية، والى جانب الدور الذي لعبته سلطنة عُمان كأحد أهم الوسطاء في المنطقة وأكبر المساهمين في نزع فتيل الأزمات وحل الخلافات بين الدول بالطرق السليمة، من خلال ما تتمتع به من سُمعة طيبة نابعة من المبادئ السياسية العُمانية التي تضمنها النظام الأساسي للدولة، فقد برزت الدبلوماسية العُمانية كثيرًا خلال السنوات الخمسة الماضية، خاصة فيما يُعرف بالدبلوماسية الاقتصادية، وتشكيل القوة الناعمة لعُمان، وبفضل الثبات على المواقف وسياسة الحياد نحو جميع القضايا، والمواقف الصلبة من القضية الفلسطينية وجميع القضايا العربية والإسلامية، فقد كسبت سلطنة عُمان احترام العالم، خاصة الدول ذات الثقل السياسي والاقتصادي الكبير، التي تُدرك ما تُمثِّله سلطنة عُمان من أهمية في المنطقة العربية والإسلامية، وكل ذلك بفضل السياسة العُمانية الحكيمة وقيادتها الرشيدة.
وعلى مستوى التخطيط العمراني ومشاريع البنية الأساسية والخدمات، فما أُطلِقَ من مشاريع كفيل بالتحدث عن ذاته، وربما نُشاهد التغيير حتى في مستوى الوعي حول نظام الإسكان وتخطيط المدن ما بين السابق والحالي؛ حيث اعتمدت الاستراتيجية العمرانية نظرة مستقبلية أكثر استدامة، وتُوِّجَ ذلك بإطلاق مشروع مدينة السلطان هيثم، الذي يعد أحد أهم المشاريع الاستراتيجية، والذي يُتوقع أن يُحقق عائدًا استثماريًا كبيرًا، كما إن مشاريع الطرق والموانئ والخدمات اللوجستية والمرافق العامة وخدمات الطاقة، حظيت بنصيب وافر خلال عهد النهضة المُتجددة التي مضت تستكمل العمل في هذه القطاعات، وفق منهجية تراعي متطلبات المرحلة المُقبلة التي تركز على القدرة التنافسية لسلطنة عُمان في جذب الاستثمارات والمستثمرين، وهو ما يتطلب توفير بيئة جاذبة على أعلى المستويات.
وعلى مستوى التشريع، فإنَّ المرحلة تشهد مراجعة شاملة لمنظومة التشريعات والقوانين وتشهد حركة تطوير متسارعة حتى تتواكب مع متطلبات المرحلة، وحتى تساهم في تحقيق المشاريع والخطط المستقبلية؛ بما يتماشى مع السياسات الاقتصادية للدولة، ولذلك نرى عدد القوانين التي استُحدثت أو تلك التي حُدِّثت، وهو ما جاءت به رؤية "عُمان 2040" في أولوية التشريع والقضاء والرقابة. وبطبيعة الحال لا بُد من أن تخضع التشريعات والقوانين للتحديث والتطوير بحسب المرحلة؛ فطبيعة العالم المُتغيِّرة وتقلُّبات الظروف خاصةً في الجانب الاقتصادي، يتطلب وجود تشريعات مرنة مُتفاعِلة مع هذا الوضع المُتغيِّر، وهو الأساس الذي تُبنى عليه منظومة القوانين والتشريعات حاليًا في سلطنة عُمان. وقد حرص جلالة السلطان المعظم على هذا التوجه منذ توليه الحكم؛ حيث أشاد بمنظومة التشريعات والقوانين التي حفظت البلاد خلال الفترة الماضية وما أسهمت به للوصول إلى هذا المستوى.
وكما أسلفت، أنه لا يمكن حصر المنجزات المتحققة خلال خمسة أعوام في هذا المقال، إلّا أنني اختمُ بأمر أجده سِمَة من سِمات هذه المرحلة، وهو ترشيق الجهاز الإداري للدولة، ونهج اللامركزية في إدارة شؤون الدولة، وتمكين المحافظات من القيام بدورها، وتمكين أجهزة الدولة الرقابية والتشريعية، وحوكمة الأداء المؤسسي؛ إذ إن كل هذه السياسات ساهمت في تحقيق أهداف التنمية الشاملة المستدامة، وجعلت من الإنتاجية معيارًا حقيقيًا لقياس الأداء، وساهمت في رفع مستويات التنافسية وجودة الحياة. وهذا ما سوف ينعكس تلقائيًا على مستوى الرفاهية الاجتماعية، وكل ذلك بفضل النهج السامي الذي أرسى دعائمه جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- في خمس سنوات من النهضة المُتجدِّدَة.