د. سليمان المحذوري
خلال الفترة القريبة أُثيرت ضجّة كبيرة في وسائل الإعلام، وعبر منصات التواصل الاجتماعي لا سيما العربية بسبب عرض فيلم "حياة الماعز The Goat Life" الهندي على إحدى منصات البث الترفيهي العالمية.
أحداث الفيلم مستوحاة من قصة حقيقية لمغترب هندي جاء للعمل في دول الخليج الغنية بالنفط في فترة التسعينات من القرن المنصرم؛ بيد أنَّ هذا العامل تعرض للخداع من قبل شركة التوظيف في بلاده، كما أُجبر على رعي الأغنام في الصحراء العربية، وواجه مُعاملة قاسية من قبل كفيله في العمل بحسب رواية الفيلم. ورغم أنَّ قصة الفيلم قد تحدث في أي مكان في العالم، وأنّها حالة لا يُمكن تعميمها على أي مجتمع إلا أنَّ الفيلم بالغ في تصوير الأحداث لأغراض سينمائية. وفي المُقابل وبعيدًا عن الإساءة، وتعزيز الصورة النمطية السلبية عن المجتمعات الخليجية يُمكن أن تكون هذه القصة فرصة لمراجعة ملفات العمالة الوافدة في دول الخليج بشكل عام، وتصحيح مساراتها ورب ضارة نافعة.
ودون الدخول في تفاصيل هذا الفيلم ورؤيته الفنية التي أُشبعت نقاشًا، وكُتبت حوله عشرات المقالات والرؤى مع أو ضد؛ فإنه مما يلفت الانتباه ويحزّ في النفس أن العقل العربي يلتفت إلى أشياء قد تبدو هامشية؛ فيما يغض الطرف عن أحداث جوهرية تعصف بالمنطقة العربية نتيجة للتكالب الاستعماري عليها. وبنظرة عامة على خارطة الوطن العربي نجد أنه مُثخن بالجراح ابتداءً من العراق واليمن مرورًا بسوريا وليبيا والسودان، والساحة العربية وللأسف الشديد هي ميدان الصراعات الدولية، والدماء العربية هي وقود تلك الحروب. ودول العالم شرقًا وغربًا تتقدم وتتطور؛ فيما تعود بلداننا العربية إلى العصور الوسطى والله المستعان.
ولا نذهب بعيدًا ومنذ أحد عشر شهرًا وما زال الكيان المُحتل يمارس إجرامه البربري في الأراضي الفلسطينية بتواطؤ دولي، وبدعم غربي لا متناهٍ، وخذلان وصمت عربي راح ضحيته أكثر من 40 ألف شهيد حتى اللحظة، ناهيكم عن الأعداد المهولة للجرحى، وتعمُّد قتل الأطفال والنساء والشيوخ، واستهداف الطواقم الطبية والتعليمية والإعلاميين، وتدمير غزة بالكامل، لا لشيء إلّا أنها قالت "لا" للغطرسة الصهيونية، وطالبت بحقها المشروع إنسانيًا ودوليًا في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ورحيل المحتل إلى غير رجعة.
ومع هذه الأحداث الأليمة التي نعيش تفاصيلها لحظة بلحظة، واستمرار ممارسة لعبة المفاوضات لإطالة أمد الحرب، نجد أن المجتمع العربي غير مكترث لما يدور حوله، أو أنه منقسم مع أو ضد، رغم أن الموقف لا يختلف عليه اثنان، وقلة قليلة هي من تدعم المقاومة الفلسطينية، ولله الأمر من قبل ومن بعد. وفي خضمّ هذه الأحداث، وفي ظل التشرذم العربي القُطري، وتجذّر الفكر الطائفي والمذهبي الذي وُظِّف لخدمة أجندات محددة، يبدو أننا بعيدين عن الوصول إلى مُبتغانا من الوحدة العربية، وتعمير بلداننا، والاستفادة من خيراتنا. ويبدو واضحًا كذلك أن سياسة "فرق تسد" قد نجحت بامتياز في بلداننا العربية.
ومع ذلك، فالأمل دائمًا موجود، ولن يغلب عسر يسرين، والرؤية أضحت واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار إلا من كان على عينيه غشاوة. ويُمكن إعادة توجيه البوصلة مجددًا، واستثمار المناخ السياسي الإيجابي، والتخلص من مصالحنا الآنية الضيقة شريطة توفر الرغبة الصادقة، والإرادة الأكيدة نحو رسم خارطة طريق للمستقبل، وضرورة العمل التكاملي، ورص الصفوف من أجل الخروج من هذه الشرنقة، وقبل كل هذا وذاك لا بد أن نعترف أن المشكلة في داخلنا، وفي طريقة تفكيرنا وما نحتاجه فعلًا هو صناعة وعي عربي، وإعادة برمجة عقولنا رأفة بالأجيال القادمة، وتنقيتها من الرواسب الفكرية المنحرفة عن جادة الصواب والتي قادتنا إلى هذا المصير المتردي.
قال تعالى في سورة الرعد "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" صدق الله العظيم.