الصبر في زمن الثروات!

 

أحمد بن محمد العامري

ahmedalameri@live.com

"الصبر على المكاره أسهل من الصبر على النعم".

الصبر هو إحدى الفضائل الإنسانية الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع يسعى إلى تحقيق التوازن والاستقرار، إلّا أن الصبر لا يُختبر فقط في أوقات الشدة، بل يُختبر أيضًا في أوقات النعم والرخاء.

في واقعنا العربي المعاصر؛ حيث تتوافر الثروات والموارد بشكل غير مسبوق، نجد أن الصبر على النعم أصبح تحديًا حقيقيًا؛ بل يمكن القول إنه أصعب بكثير من الصبر على المكاره.

في القرآن الكريم، نجد نموذجًا عظيمًا للصبر على المكاره في قصة سيدنا أيوب عليه السلام. أيوب عليه السلام كان يعيش حياة مليئة بالنعيم، ولكنه ابتُلي بفقدان ماله وأهله وصحته. ورغم تلك الابتلاءات الشديدة، لم يتزعزع إيمانه أو يصبه اليأس. كان أيوب صابرًا على المكاره بطريقة تبعث على الدهشة والإعجاب، إذ لم يكن صبره مجرد تحمّل للآلام، بل كان تسليمًا كاملًا لإرادة الله وثقة في حكمته.

هذا النوع من الصبر يُظهر القوة الروحية العظيمة التي يمكن أن يتمتع بها الإنسان المؤمن، الذي يدرك أن البلاء ما هو إلّا جزء من اختبار الله لعباده، وأن النجاة من هذا الابتلاء تكمن في الصبر والاحتساب.

وعلى النقيض، نجد أن الصبر على النعم هو تحدٍّ من نوع آخر، يتجلى في قصة سيدنا سليمان عليه السلام. سليمان عليه السلام كان ملكًا عظيمًا، منحه الله ملكًا لم يُمنح لملكٍ من قبله ولا من بعده، مع قدرة على التحكم في الجن والإنس والطيور. هذه النعم الكبيرة كانت اختبارًا لصبره وشكره لله، وليس فقط في قدرته على التحمل كما في حالة أيوب.

سليمان عليه السلام أظهر نوعًا مميزًا من الصبر؛ وهو الصبر على عدم الانجراف وراء مغريات السلطة والثروة. بدلًا من استغلال هذه النعم في تحقيق مصالح شخصية أو زيادة سلطته، استخدمها لتحقيق العدالة ونشر الخير بين الناس. كان سليمان يعلم أن النعم هي اختبار من الله، وأن استخدامها بطريقة صحيحة هو شكل من أشكال الصبر الذي يستحق عليه الشكر.

اليوم، في ظل الثروات الهائلة التي تملكها بعض الدول العربية، نجد أن اختبار الصبر على النعم بات أشد وضوحًا وأهمية. بعض القادة العرب لم يتمكنوا من الصمود أمام هذا الاختبار، فبدلًا من استثمار هذه الثروات في البناء اختاروا مسارًا مختلفًا تمامًا. بعضهم أنفق هذه الثروات على النزاعات الداخلية والخارجية، وعلى مشاريع تدمير دول عربية أخرى، بدلًا من تعزيز الوحدة والتنمية.

هذه السياسات التي تعكس ضعفًا في الصبر على النعم، أدت إلى تدمير الأوطان وتشريد الملايين من الناس، وبدلًا من أن تكون هذه الثروات نعمة، تحولت إلى نقمة على العرب.

من قصتي أيوب وسليمان عليهما السلام، يمكن استخلاص دروس ثمينة حول كيفية التعامل مع النعم والمكاره. القادة الذين يتمتعون بثروات وسلطات كبيرة عليهم أن يدركوا أن هذه النعم هي اختبار لهم، وأنهم مسؤولون أمام الله وأمام شعوبهم عن كيفية استخدامها. الصبر في هذه الحالة لا يعني فقط تحمّل المسؤولية؛ بل يشمل أيضًا التواضع والشكر، واستثمار الموارد في تحقيق الخير والعدل.

على الشعوب أيضًا أن تعي أهمية الصبر على المكاره، وأن تتوحد في مواجهة التحديات، وأن تعمل على تعزيز قيم الشكر والصبر على النعم، حتى لا تتحول إلى نقمة. يجب أن تكون هناك رقابة مستمرة على الحكومات للتأكد من أن الثروات تُستخدم في خدمة الشعب، وليس في تحقيق مصالح شخصية أو في تغذية الصراعات.

إنَّ الصبر في زمن الثروات ليس مجرد فضيلة؛ بل هو ضرورة لتحقيق نهضة حقيقية. وفي عالم مليء بالتحديات والمغريات، يصبح الصبر على النعم اختبارًا حقيقيًا لإيمان القادة والشعوب. وعلى القادة والزعماء أن يدركوا أن النعم التي يمتلكونها هي أمانة من الله، وأنهم سيُسألون عنها يوم القيامة. وعليهم أن يستخدموا هذه النعم بحكمة لتحقيق التنمية والرخاء، بدلًا من تدمير الأوطان وزرع الفتن. بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق نهضة حقيقية في عالمنا، تُبنى على أسس الصبر، والشكر، والعدل.

تعليق عبر الفيس بوك