الطليعة الشحرية
تصنع الشعوب الطُغاة فتتحتم الظروف الاجتماعية والنفسية والتي تُسيطر عليها بواعث الخوف والتوجس وغياب الرفض في الشعوب تحت شعار الحكمة العربية الأزلية "اصبر على مجنونك لا يجيك اجن منه".
لا يولد الطاغية طاغية؛ بل يصنع بأيدٍ شعبية رغائبية مُغيّبة، ولا ينمون إلّا في بيئة التخلف والجهل وقلة الوعي والركون إلى زعيم يُحمَل على الأكتاف له مُطلق الحقوق وليس عليه أية واجبات، ففي "معادلة التنمية"، الثراء حاصله ثراء، والتخلف حاصله قبول بالطغيان والظلم، ولكن صاغت الحريات التي روجتها الرأسمالية الأمريكية الصهيونية الصليبية قاعدة مستحدثة للطغاة حُرية مُطلقة وهيمنة مطلقة محصلتهما طغيان نرجسي.
في البدء ما هو الديكتاتور أو الطاغية؟ وفقًا للموسوعة البريطانية، فإن الدكتاتورية هي صورة من صور الحكم يمتلك خلالها شخص واحد أو مجموعة صغيرة سلطة مطلقة دون قيود دستورية فعَّالة. أما الطاغية فتُعرِّفه الموسوعة ذاتها بأنه حاكم قاسٍ وظالم، استولى على السلطة بطريقة غير دستورية، أو ربما يكون قد ورث هذه السلطة.
فنتازيا فرعون سرقتها أمريكا
إنها القصة المعتادة المتواترة في التاريخ البشري؛ زعيم يسيطر وحاشية تُمجِّد وتنافق، وطغيان النفس بالتمادي وإذلال الضعفاء من أبناء الشعب، ورقص السماري الفنان ونفاقه للزعيم والتألِيه المطلق للزعيم المستبد "مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي" (القصص: 38).
والاختلاف في نوع الاستبداد، أن فرعون كان ملكًا، والتاريخ يعج بالملوك الطغاة، بينما أمريكا نظام رأسمالي سرطاني بعقيدة صهيونية صليبية ترتدي غطاء الحريات.
شخصية الدكتاتور متسلط وقاسٍ وشديد ولا يهتم بآراء الآخرين، وحين تسقط السلطة في أيدي أشخاص متلاعبين يتمتعون بكاريزما يمتلكون شخصية مُعادية للمجتمع ويفتقرون للتعاطف ويتعطشون للعظمة والسلطة والسيطرة والكذب والخداع ولا يبالون بالقوانين أو القواعد التقليدية أو الأخلاق فيتحول بذلك إلى ما يسمى "بالنرجسي الخبيث"، وذلك حسب ما عرف المحلل النفسي أوتو كيرنبرغ.
نظام نرجسي خبيث
أهم صفات النرجسي الخبيث الغرور وتتجلى في سمات مثل الغطرسة الحاجة إلى القوة والاعتراف والتأييد والميل إلى استخدام أو استغلال الآخرين لأسباب شخصية. إن مغبة الوقوع في فلك نظام نرجسي سرطاني خبيث يجلب الحسرات والويلات والخسائر الفادحة. واحدة من العلامات الرئيسية للنرجسي الخبيث كذلك هي تاريخه الطويل في إساءة توظيف الناس من حوله، ثم التخلُّص من الأشخاص الذين لم يعودوا مفيدين له. أيضًا غالبًا ما يكون النرجسيون الخبيثون متعطشين للسلطة ومهووسين باتباع مختلف الطرق للحصول على المزيد منها، وغالبًا ما يتنافسون على كل ما يمنحهم هذه القوة، لأنهم يفتقرون إلى القدرة على إيجاد القوة داخل أنفسهم، لذلك يكون لديهم حاجة ماسَّة إلى مناصب تسمح لهم بالمزيد من السلطة لتجعلهم يشعرون بالاستحقاق.
وهناك الكثير ممن تخلى عنهم النظام الأمريكي بانتهاء أو تقويض المصلحة كشاه إيران السابق محمد رضا بهلوي الذي حول بلاده منذ توليه الحكم عام 1949 إلى تابع مسلوب الإرادة للولايات المتحدة، ووظف كل إمكانيات إيران ومواردها في خدمة سياسة واشنطن وأهدافها الإقليمية والدولية قبل أن تتركه يواجه بمفرده مصير السقوط، واجهه الرئيس الفلبيني المخلوع فرديناند ماركوس الذي ساهمت في وصوله إلى السلطة عام 1965، وسعى ماركوس طوال سنوات حكمه لرد جميل واشنطن فجعل بلاده وكيلا لها بجنوب شرق آسيا وملأ الأراضي الفلبينية بالقواعد الأمريكية.
ولم يشفع كل ذلك لماركوس عندما ثار الشعب ضده بقيادة كورازون أكينو، ليرضخ في النهاية لطلب السفير الأمريكي في مانيلا آنذاك ستيفن بوزورث بمغادرة البلاد، وهرب مع زوجته إيميلدا إلى هايتي.
رفضت الولايات المتحدة في عام 1986، استقبال الرئيس السوداني الراحل جعفر النميري على أراضيها ليكون لاجئًا سياسيًا بعد ثورة السودانيين عليه، وتناسى الأمريكيون ما أسداه لهم النميري من خدمات لا سيما دفنه لنفاياتهم النووية في بلاده، حسب بعض المزاعم، ومساعدته في ترحيل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى فلسطين المحتلة.
والكثير من الشواهد المشبعة بسلوك مغرور وتنم عن نرجسية خبيثة فكل ما زادت السلطة في يد النرجسي الخبيث رافقتها خسائر فادحة ويحل الخراب.
غزة فقأت عين أمريكا
بعد سيطرة الرأسمالية الصهيونية الصليبية وتفشي نظامها النرجسي الخبيث على العالم باستخدامهم قدرا كبيرا من العنف لترهيب معارضيهم وإحكام سيطرتهم عبر وسائل الإعلام المعولمة والتقنيات المتطورة وفرض ما على البشرية أن تقرأ وما يجب أن تؤمن به وما لا يجب أن تؤمن به. وبعد محاولات إماته القضية الفلسطينية بالهرولة للتطبيع ظهر "التيك توك" ونسف "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر صفقة القرن وترهات الديانات الإبراهيمية. وبعد أن جدعت أفغانستان أنف أمريكا جاءت غزة لتفقأ عين أمريكا وتوقظ الفطرة البشرية السوية واحتياجها لقيم إنسانية أصيلة كالعدالة والمساواة.
أضرمت مقاطع "التيك توك" عن الإبادة الجماعية المستمرة والتجويع لشعب أعزل وبدعم أمريكي ومساندة أوربية ومساهمة من مرتزقة هنود وغيرهم وبمساهمات جليلة وحصار عربي من كيانات وظيفية تستشعر بجبن الطغاة الخطر الذي يُهدد وجودها.
خلّفت هذه الكماشة الإسرائيلية الأمريكية النرجسية السرطانية أكثر من34 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف مصاب فلسطيني.
وما تشهد الجامعات الأمريكية، خاصة النخبة منها، حراكًا شبيهًا بحراك حرب فيتنام بهدف وقف الدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي، ووقف التعاون العلمي والبحثي بين جامعات المحتجين وإسرائيل، وسحب أي استثمارات فيها. والشكر كل الشكر لمخرجات الطغاة العرب رئيسة جامعة كولومبيا، نعمة شفيق أو مينوش في المساهمة في إشعال النار في الهشيم وذلك عقب استدعائها للشرطة من أجل فض اعتصام طلابي احتجاجي سلمي، وفق ما ذكرته في جلسة استماع بمجلس النواب الأمريكي.
من أين تأتي بذور الطغيان؟
أنجبت بعض المجتمعات العقيمة فكريًا وروحيًا المستبدين الذين يحسنون صعود سلالم الطغيان خطوة بخطوة، وقبل كل هذا وذاك هو في حاجة إلى تربة خصبة تحتضن بذور الجبروت الخاصة به، وهنا تبرز الحاجة الى مؤسسات تعليمية وعسكرية وأنظمة نرجسية خبيثة.
اتبع النظام الأمريكي النرجسي الخبيث مهنة تدجين العقول، فيفخر الأمريكي بأنه واهب الحريات للعالم وأنه النظام الذي أسس نظام حقوق الإنسان وأهداه للبشرية؛ فالجيش الأمريكي يحرر الشعوب المغلوبة ويُسقط الحكام الديكتاتوريين ويمحي الطغاة من سجل التاريخ.
شطب تمرد جامعة كولومبيا تلك الهبات المهداة للعالم بعد حديث مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي، من قلب الجامعة إلى الطلاب اليهود، وطالب بوقف ما اعتبره تهديدًا لهم ومواجهة ما وصفه بانتشار "معاداة السامية" في حرم الجامعات. كيف لمشهد ساخر أن يجتمع في صورة مينوش شفيق، ربيبة فنتازيا فرعونية دكتاتورية لم تهذب روحها الهبات السخية من النظام النرجسي الخبيث، وبين مايك جونسون في حديثه كفرعون مستبد. لم يكتف النظام الأمريكي النرجسي الخبيث بسرقة خيراتنا؛ بل زاد عليه سرقة أنموذج الطغاة المستبدين وجعله أكثر شمولية.
من التناقض الساخر المحض أن يكفل الدستور الأمريكي للمواطن الأمريكي حقه في التعبير عن رأيه وتعد معارضة إسرائيل في الولايات المتحدة حقًا يحميه الدستور، وكل الأفراد أو الجماعات أحرار في التعبير عن آرائهم حول هذه القضية، أو أي قضية أخرى دون خوف من أية عواقب قانونية، بينما يُعتقل مئات الطلاب. لقد أسقطت الاحتجاجات الطلابية كل الآيدولوجيات التي يتشدق بها النظام النرجسي الخبيث؛ فاستخدام كل تلك الآيدولوجيات والمصطلحات والتلويح بمعاداة السامية ما هي إلّا لإقناع أتباعهم أو حتى أنفسهم شكليًا أن مظهرهم لائق ومتحضر أمام المستعبدين المتطلعين للتحضر. لم تعد أمريكا مؤهلة لتحاضر وتهذب العالم أخلاقيًا، لقد وقعت أمريكا في فخها الذي تُفاخر به وتُنصبه لغيرها!
يا عزيزي كلنا طغاة..
هناك شعوب صنعت الطغاة وألهتم مرات عديدة، فلم يجعل فرعون من نفسه طاغية؛ بل صنعه الشعب واحتياجاته للعيش، وإن كانت معيشة مغموسة بمذلة؛ فخصوبة أرض التخلف والجهل وغياب روح الرفض وتدجين العقول من قبل فئات تُتقن النفاق، قادرة على سحق الحقائق وتفخيم فرعون وتألِيهَهُ، كما أعطت الفرعون الحق في الاستعلاء وسفك الدماء. وتلك هي أغلب وقائع المستبدين في التاريخ. بينما تفوقت أمريكا في تطوير وتهذيب النسخة التاريخية من الفنتازيا الفرعونية الدكتاتورية المستبدة، وذلك بصناعة نظام متكامل شامل نرجسي خبيث يحتوي في بطنه الكثير من الفراعنة الصغار، وهو نظام ذو عقيدة صهيونية صليبية هيمنته اقتصادية شمولية خلف هذا النظام الخراب والخسائر أينما حل ودون رادع، ماشيًا على المثل العربي "قول يا فرعون مين فرعنك؟ قال: ما لقيت حد يردني".