بعض الكرامات وبحوث الدواء الوهمي! (2)

 

 

◄ الأمر المشترك بين هذه الدراسات العلمية وبين الكرامات أن كليهما قائم على قوة الأفكار والاعتقادات

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

تناولنا في مقالنا السابق كيف أن الدواء الوهمي يؤثر على الإنسان وعلى عقله، بحيث يجعله يشعر بتحسن ملحوظ في حالته الصحية، وقد لاحظ بعض الباحثين أن الأمر لا يقتصر على تناول الأدوية فحسب بل يمكن للأثر أن يمتد إلى العمليات الوهمية، ويكون ذلك كافياً للبعض ليشعر بالتحسن من حالته المرضية.

ففي دراسة نشرت في مجلة "New England Journal of Medicine" عام 2002، حول معالجة عدد من الأشخاص المصابين في ركبهم؛ حيث تم إخضاع 180 منهم إلى ثلاث مجموعات، مجموعة منها لم يتم إخضاعهم لعملية معالجة الركبة بصورتها الحقيقية، وإنما قام الطبيب بالإجراءات الشكلية فقط دون القيام بأي إجراء حقيقي، وبعد الانتهاء من هذه العملية، تمت متابعة الجميع لمدة تصل إلى شهرين، ولاحظ الطبيب أن الجميع شعروا بتحسن كبير جدا في ركبهم ولم يلاحظ أي فرق بين أولئك الذين أخضعوا للعملية الحقيقية وبين الآخرين الذين خضعوا للعملية الوهمية.

وفي عام 2010، أجرى طبيب من جامعة هارفارد دراسة جديدة من نوعها؛ حيث أبلغ 40 مريضًا من مرضى القولون العصبي بأنه سيقوم بإعطائهم دواءً وهميًا، لكنه أكد لهم أنَّ الدراسات السريرية أوضحت أن للدواء الوهمي أثر إيجابي كبير جدًا على مرضهم، ولاحظ الطبيب وبعد ثلاثة أسابيع تحسن حالات الكثير منهم وبدرجة مقاربة لمن يتناول دواءً حقيقيًا لمعالجة هذا المرض، وهذا يثبت مرة أخرى أن إيمان الشخص واقتناعه بصحة الفكرة بالغ الأثر في معالجته من المرض.

لكن قد يتساءل البعض.. لماذا لا يكون الأثر متساوياً على الجميع، فيظهر عند البعض ولا يظهر عند البعض الآخر؟ وهو سؤال وجيه، ما زال البحث العلمي يحاول أن يصل إلى إجابات حاسمة فيه، إلّا أن بعض الدراسات أشارت إلى أن ذلك يعود إلى الصفات النفسية للمريض، ففي دراسة نشرت في مجلة "Journal of Psychosomatic Research"، تم فيها تقسيم متطوعين أصحاء إلى فئتين: متفائلين ومتشائمين بناءً على استبيان معين موضوع بعناية، وعندما أُعطوا دواءً وهميًا وأُبلغوا بأن هذا الدواء سيجعلهم يشعرون بالإعياء، تأثر المتشائمون سلبيًا وبصورة كبيرة مقارنة بالمتفائلين، وفي المقابل عندما أُعطوا دواءً وهميًا وأُبلغوا بأن هذا الدواء سيحسِّن من نومهم، تأثر المتفائلون بصورة أكبر وبشكل ملحوظ عن الفئة المتشائمة، كما إن بعض المختصين في هذا الشأن- وفي معرض تحليل بعض التجارب- يشير إلى أن تأثير الدواء الوهمي يقِل وبصورة ملحوظة في الشخصيات القلقة وكثيري الشك وأصحاب العقليات الناقدة والتحليلية والذين يبالغون في عمليات النقد والتحليل، وعلى الرغم من منطقية هذا الاستنتاج، إلّا أن هذا الاستنتاج يفتقر إلى دراسات تجريبية داعمة وبصورة واضحة.

لكنَّنا نظن أن هذه الدراسات العلمية حول أثر الدواء الوهمي يمكننا الاستفادة منها بتفسير الأثر الإيجابي الذي يتولّد عند الإنسان عندما يلجأ إلى شيء ما ويظن أن له أثرًا إيجابيًا على صحته، كما يقوم بذلك أصحاب الديانات المختلفة؛ فالأمر المشترك بين هذه الدراسات العلمية وبين الكرامات هي أن كلاهما قائم على قوة الأفكار والاعتقادات. هذه الدراسات تشير إلى أن ايمان الشخص بفكرة ما حتى لو لم تكن صحيحة، أو قائمة على مقدمات غير علمية، فان هذه الأفكار يمكن لها أن تأثر في حالته الصحية، لا من الناحية النفسية فحسب؛ بل يؤثر ذلك أيضًا على حالته البيولوجية بحيث تحدث تغييرات حقيقية في جسده ويشفى من المرض تمامًا، فكلما كان ايمان المرء وقناعته بالسبب أشد وأقوى كلما كانت النتيجة مؤثرة بشكل أكبر.

إن المريض الذي يشرب من مياه معينة وهو يعتقد أنها مياهٌ مقدسة، وأنها ستشفيه من المرض، فإنَّ اعتقاده هذا سيؤدي دورًا إيجابيًا في شفائه من المرض، ولا يقتصر ذلك على حالته النفسية؛ بل التأثير سيظهر على جسمه بيولوجيًا أيضًا وربما يُشفى من المرض تمامًا، وكلما كان إيمانه وقناعته أقوى كان تأثير ذلك أشد وأقوى.

وهذا يعني أن ادعاءات أصحاب الديانات المختلفة في هذا الخصوص قد تكون صحيحة وبغض النظر عن صحة تلك المعتقدات؛ لأن إيمانهم واعتقادهم بأن ما قاموا به هو الأهم، وهو الذي يُغيِّر من نفسيتهم ويولِّد تغيُّرات بيولوجية وأثرًا إيجابيًا قد يصل لمستوى الشفاء التام من تلك الأمراض، تمامًا كما كان يستجيب عدد من المرضى للأدوية الوهمية. لكن ذلك يشير في الوقت نفسه إلى أمر آخر له من أهمية كبيرة، وهو أن أثر الاعتقاد غير مرتبط بصحة الاعتقاد، فلا يمكن الاستشهاد بهذا الصنف من الكرامات بصحة اعتقادات أصحابها؛ فهذه الدراسات تشير إلى أن المهم في الأمر هو الاعتقاد بالفكرة، وهو الذي يولِّد الأثر، بغض النظر عن صحة المعتقد أو خطأه؛ بل إنَّ ذلك يشير أيضًا إلى أن هذا الصنف من الكرامات لم يعد من الكرامات أصلًا، وذلك لأن الأثر الناتج هو نتيجة لقانون طبيعي يعُم جميع البشر بغض النظر عمّا يؤمن به الإنسان ويعتقد بصحته.

وإذا كان ذلك صحيحًا، فعلى الإنسان أن يُقيِّم أفكاره وعقائده على هدي العقل، ولا يستطيع أن يعتمد على هذا الصنف المزعوم من الكرامات لإثبات صحة عقائده وأفكاره!

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس