آخر كلام

قُل لي: ماذا تملك أقل لك من أنت؟

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

كانت وما زالت المكانة الاجتماعية تمثل شيئًا مهمًا للإنسان، وهي ما ترسم علاقته بالآخرين، وهي المعيار الذي يحدد طريقة تعامله مع الآخرين؛ ففي كل زمان ومكان سنجد معايير مختلفة تحدد المكانة الاجتماعية، فتلك المكانة عند القروي تختلف عن معناها عند ابن المدينة، وعند ابن الجبل، وكذلك يختلف المفهوم من شخص لآخر وفق ثقافة كل إنسان وبيئته ومجتمعه.

هناك من المجتمعات التي تمنح رجال الدين والسياسة مكانة كبرى، في حين نجد مجتمعات أخرى لا يحظون فيها بالمكانة والأهمية ذاتها. وفي زمننا، ارتبطت قيمة الإنسان بما يحظى به من مكانة وسط محيطه الاجتماعي، الذي يتحدد بما يحققه من إنتاج مادي في المجتمع، ومدى قدرته على قيامه بالقدر الأكبر من الاستهلاك المادي واستمراره فيه. بمعنى أن القيم غير المادية كالعلم والأخلاق تعد معايير ثانوية وتقع في أسفل سُلم المكانة الاجتماعية عند الكثيرين؛ فمكانتك الاجتماعية يُحددها حجم الثراء المادي وما تملكه من سُلطة مادية. وتُعرَف المكانة الاجتماعية  بالمرتبة أو الوضع الذي يحتله الشخص في المجتمع، وعادةً ما كانت المكانة الاجتماعية مرتبطة بالوظائف والمهن والثراء والسلطة، فكل من يملك إحدى تلك الميزات كانت كلمته مسموعة وله تأثير على المجموعة.

وفي السنوات الأخيرة، أصبح الكثيرون يميلون إلى البحث عن الذات هروبًا من ضغوط الحياة المادية، فسكنوا الغابات والجبال والمناطق المعزولة عن البشر، مثل "جماعات الآمش" في أمريكا وكندا وأستراليا، من أجل أن يعيشوا حياة مع الطبيعة ويخوضوا معترك الحياة ببدائية، باحثين عن ذواتهم المفقودة من خلال التناغم مع الطبيعة؛ لتحقيق أقصى درجات الرضا والتصالح مع النفس.

إذن المكانة الاجتماعية كمفهوم ليس حديثًا، فمُنذ نشأة المجتمعات والتراتُبية الاجتماعية حاضرة؛ فالشعراء قديمًا كانت مكانتهم عالية عند القبيلة؛ لأنهم لسان حالها وجهازها الإعلاميّ، الذي يوثق انتصاراتها وانتصارات سادتها من خلال شعر المديح.

كذلك ظلَّ الحكماء والعلماء يتمتعون بمكانة عالية في المجتمع خصوصًا في بلاط السلاطين، وخاصة في القرن الثامن عشر تحديدًا، مع انتشار الإقطاعيين ونمو ثرواتهم، فظهرت طبقة النبلاء في أوروبا وارتبطت المكانة الاجتماعية بالثراء المادي.

وقد تساءل آدم سميث في نظرية المشاعر الأخلاقية عن الهدف من العمل والسعي والطموح والبحث عن الثروة، وهل الهدف هو لفت الأنظار والحصول على قدر من التعاطف والحب من المجتمع. ويرى سميث أن الكثير من السلع والموارد التي نمتلكها هي غير ضرورية، لكن مع الوقت اكتسبت أهميتها لكونها أدوات التقييم والنبذ؛ فمكانة من يمتلك سلطة أو ثروة ليس كمن لا يملك  شيئًا.

وفي دراسة اقتصادية نُشرت في القرن التاسع عشر، تحت عنوان "نظرية الطبقة المُترفة" لثروستين فييلين تحدث الكاتب عن ظهور طبقة من رجال الأعمال الذين يملكون وسائل الإنتاج إلا أنهم لا يُسهمون في عملية الإنتاج والاقتصاد بفعل ممارساتهم الاستهلاكية المُترفة واهتمامهم بالمظاهر، وهي ممارسات لا تُسهم فعليًا في الاقتصاد، في حين أن الموظفين والعاملين في الإنتاج هم فعلياً من يساهم في الاقتصاد. وقد رأى الكاتب أن ذلك كان مؤشرًا على صعود مفهوم المكانة بالمجتمع والتي لن تكون مقتصرة على القدرة المادية وامتلاك الثروات؛ بل ستتجاوز ذلك إلى القدرة على التحكم وتوجيه المجتمع لتحقيق أهداف وأجندات مخفية.

وتناول الكاتب آلان دبوتون في كتاب "قلق السعي إلى المكانة" موضوع سعي الناس إلى المكانة حتى يصبحوا مرغوبين ومحبوبين في المجتمع  لتحقيق رضا الذات على حساب أشياء كثيرة وتضحيات قد تكون كبيرة.

وفقًا للكاتب، فإنَّ البعض يخشى أن يكون إنسانًا عاديًا، وألا يكون موضع اهتمام من المجتمع،  فيبحث عن الوسيلة التي تجعله مُميزًا، وبالتالي يشعر بالراحة والحرية والرضا عن النفس. أي أن الرضا عن النفس لا ينبع من الداخل من جوهر الإنسان؛ بل من عدد الدعوات الاجتماعية التي يحصل عليها، وتواصل النَّاس معه، وكم الإطراء والمديح ...وغيرها.

ويربط الباحثون الاجتماعيون بين السعي للمكانة الاجتماعية، وبين البحث عن الحب فمن يواجه يعاني شعور النبذ أو التهميش، قد يستميت للحصول على المكانة الاجتماعية، بغض النظر عن نوعها حتى، وإن كانت هذه المكانة أن يقوم بأعمال مُشينة أو ممنوعة قانونًا.

مفهوم المكانة أصبح مرادفًا لنوع من أنواع الحب وهو حب الناس، وفي الحال زادت نسبتها مع التطور التكنولوجي في العقود الأخيرة، وأصبحنا نرى آلافًا من البشر من كل بقاع الأرض عبر منصات التواصل الاجتماعي يبحثون عن المكانة الاجتماعية حتى لو كانت هذه المكانة تعرضهم للمهانة أو الخطر أو يصبحون مادة للتسلية والضحك والسخرية.

كيف يرانا الآخرون؟ وكيف نكون مقبولين مجتمعيًا؟ أسئلة تعكس أفكارًا انتشرت في معظم المجتمعات، فقد أصبح الناس يعانون من فوبيا (رُهاب) فقدان حب الآخرين والمكانة الاجتماعية، حتى وإن كانت المكانة افتراضية بعدد من المتابعين غير المرئيين، فحمَّى البحث عن الحب جعلت من البعض يقبل بـ"لايكات" (إعجابات وسائل التواصل الاجتماعي) كدليل على الحب والقبول!

قل لي: ماذا تملك أقل لك من أنت؟ هكذا حددت الرأسمالية مكانة الإنسان في المجتمع، ليس بما يملكه من قيم وأخلاق وعلم غير مادي؛ بل بما يستهلكه من أشياء تدر على المنظومة أموالا وثروات، ففقَدَ الإنسان تقديره للذات بسبب المعايير المادية للمكانة، وبات القلق يلازمه أينما ذهب، إلّا القلة من البشر الذين اختاروا أن يكونوا مختلفين وامتلكوا رضا عن الذات.