الحقيقة الغائبة في ملف التوظيف

 

 

 

مرفت بنت عبد العزيز العريمية

 

رُبَّ ضارة نافعة؛ فالخير قد يخرج من باطن قد يبدو في ظاهره لنا شرًا، هكذا تبدو الأمور فيما يخص أزمة الوظائف التي تشغل الرأي العام منذ أعوام؛ إلّا أنَّ الوظيفة بمفهومها التقليدي فقدت رونقها بعدما كانت المبتغى والغاية، وسعت وراءها أجيال منذ انطلاقة الثورة الصناعية الأولى وحتى اليوم ونحن في القلب من الثورة الصناعية الرابعة، تاركة حِرف الأجداد وتجارة الآباء بحثًا عن استقرار مادي وحياة أفضل وكان ذلك سببًا من أسباب هجرة العمالة الوافدة من أوطانها باحثة عن فرص عيش تحفظ كرامتهم لشغل المهن التقليدية والحرف اليدوية.

فبعد عقود من الأزمات الاقتصادية وتسريح العمالة الوطنية المُتكرر، وتفاقم أزمة الباحثين عن عمل عالميًا ومع فقدان الأمان الوظيفي، يتَّجه الشباب اليوم إلى العمل الحرّ والمرن الذي يعتمد على مهارات فردية كالحرف والمهن والمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، التي توفر للفرد حياة اجتماعية صحية ومرونة في ساعات العمل تتوافق مع قناعات هذا الجيل الذي لا يميل إلى الاستقرار في وظيفة ثابتة طويلًا، إنه جيل يحب السفر والتنقل والتكنولوجيا والعمل عن بعد خارج المكاتب التقليدية والأبواب المغلقة ولا يحب الروتين وساعات العمل الطويلة دون أن يحظى باستراحة طويلة، جيل نفقاته كثيرة مقارنة بالأجيال السابقة؛ لذلك لا تُعد الوظيفة الثابتة مغرية إن لم تكن مجزية ولا تحقق له استقلالية.

لذلك اعتمدت المؤسسات الكبرى عالميًا نظام العمل خارج المكتب وفي الأماكن المفتوحة وحلَّ الحاسوب وشبكة الإنترنت مكان الطاولة والمكتب.

وفي هذه المرحلة الفاصلة، وحتى لا نهدر المزيد من الموارد البشرية والمادية دون تحقيق المنفعة الاقتصادية المرجوة لبناء المجتمع يجب أن ينصب الاهتمام على تجسير الفجوة المهارية والفكرية بين الباحثين عن عمل ومتطلبات السوق من حيث المهارات العملية وبيئات عمل محفزة للإنتاج فالمهارة أولى من المؤهل العلمي الذي لم يعد كافيا لمنح الفرد لقمة عيش كريم.

نحن بحاجة إلى إنشاء مراكز تدريب على المهارات في كل المحافظات وتعمل على مدار العام وتوفر الدعم المعرفي والاستشارات في جو إبداعي ينمي المهارات، لكل الباحثين عن عمل والمُسرَّحين من أعمالهم والعازمين على العمل الحر لتزويدهم بمهارات وثقافة عمل تنعش الاقتصاد وتتلاءم مع التوجه الاقتصادي العالمي وليس المحلي فالعالم أصبح أصغر من قرية.

ويعد ملف التوظيف من الملفات الساخنة والشائكة والمثيرة للجدل وقد أخذ حيزًا واهتمامًا من قِبَل صُنَّاع القرار والمؤسسات التي بادرت بطرح حلول مختلفة لاحتواء المشكلة إلّا أن الطريق لا يزال طويلًا، وهي ليست نظرة سوداوية؛ بل واقعية.. فنحن جزءٌ من هذا العالم الكبير المُتغيّر والذي يمر بتحديات وتحولات كبرى على كافة الأصعدة، إلّا أن هناك الكثير من العوامل التي أدت إلى تفاقم المشكلة في منطقتنا ومن أهمها ديمغرافية المجتمع التي يشغل فيها الشباب النسبة الأكبر من التركيبة السكانية فالشواغر الوظيفة لا تستطيع أن تحتوي التدفق المستمر من مخرجات التعليم. وعوامل أخرى اقتصادية تتعلق بالتحولات الاقتصادية وتغيرات سوق العمل العالمي والتوجه إلى الاقتصاد الأخضر والأتمتة والذكاء الاصطناعي والتغيرات المناخية والبيئية وغيرها. وكلها تحولات تنذر بأنَّ سوق العمل لن يعود كما كان وما يحدث اليوم ما هو إلا مخاض لولادة أنظمة اقتصادية مختلفة تتطلب إحداث تغييرات جذرية في التعليم والتدريب وثقافة العمل ومفهوم الوظيفة التقليدية.

ونحن أيضًا في مرحلة نحتاج إلى استراتيجية متكاملة لفهم جيل الشباب الذي يمتلك رؤيته الخاصة للعمل والحياة وذلك لنتمكّن من تجسير الفجوة المهارية بين الأجيال في العمل والحياة فهما لا ينفصلان، لذا من الضرورة إنشاء مراكز تدريب للباحثين عن عمل والمسرَّحين بكافة مؤهلاتهم العلمية وذلك لتزويدهم بمفاهيم العمل ومهارات التواصل والتسويق الذكي.

وكي نحقق كل ذلك لا بُد من تسويق ذكي للكوادر الوطنية ومواجهة الحملات السلبية التي تمسّ مفهوم توطين الوظائف من خلال حملات رصينة تشتغل على إدارة السمعة التي سيكون لها أثر كبيرٌ ومتكاملٌ مع برامج إعداد الموارد البشرية للمهن والوظائف.

الأكثر قراءة