حميد بن مسلم السعيدي
Hm.alsaidi2@gmail.com
أخطر تغيير تُواجهه المجتمعات هو التغيير في القيم والمبادئ والأخلاق التي تُؤمن بها، وتغييب حقوق المساواة وصناعة العنصرية بين أفراد المجتمع، وبناء الطبقات المجتمعية على أساس الجانب المادي؛ مما يخلق مجتمعات تُعاني الحقد والبغضاء بين الأفراد، فيسود الظلم والاستبداد ويشعُر الفقراء بسلب حقوقهم لصالح الأغنياء تحت مسميات رأسمالية مستبدة.
وهذا الفكر يعُود بنا إلى الحضارات القديمة؛ حيث ظهر مفهوم المواطنة لدى الإثنيين، وقد امتاز بها الذكور الذين بلغوا الثامنة عشرة من عُمرهم، وممن يمتلكون المال؛ وذلك لتمييزهم عن باقي الفئات؛ حيث اتَّخذت المواطنة شكلاً معيناً ومبتُوراً ذا طابع عنصري في التمييز بين أفراد المجتمع، وجعل هذه الصفة محصورة في فئة معينة؛ حيث تمَّ إقصاء بقية فئات المجتمع، كما تمَّ إقصاء المرأة عن المواطنة؛ مما يعطي هذه المواطنة شكلاً مختلفاً بعيداً عن الحرية والديمقراطية؛ حيث غابت المساواة وشعر الجميع بالتمييز والتفرقة بين السكان؛ مما دفع الإنسان للثورة والنضال من أجل الحرية وتحقيق المساواة والعدالة والإنصاف، وقد استمرَّ هذا النضال لفترة طويلة وأخذ أشكالاً متعددة من الحركات الاجتماعية في مختلف مناطق العالم حتى ظهر مفهوم المواطنة القائم على الحقوق والواجبات كمفهوم قيمي قائم على المبادئ الإنسانية.
وعندما جاءَ الإسلام، عمل على مُحاربة الظلم والاستبداد، ومحاربة العبودية والطبقات بين أفراد المجتمع، وعامل الناس مُعاملة قائمة على المساواة، فكان جلُّ من دخل الإسلام في بدايته من عامة الناس والفقراء؛ لأنهم شعروا بالعدالة ووجدوها واقعًا ممارسًا في حياتهم، وجاءت الشريعة الإسلامية لتجمع الجميع في صلاة واحدة، وفي صف واحد؛ للوقوف أمام الله عزوجل: الفقير والغني، والأبيض والأسود، العربي والأعجمي الجميع كانوا سواسية، وكان الصف الأول للأسبقية ولا يجوز تجاوز الآخرين، هذا النهج الإسلامي كان مدرسة تُبنى بها المجتمعات في غرس القيم والمبادئ التي تُرسخ الاحترام والشعور بقيمة الآخر دون تمييز أو شعور بالطبقية والعنصرية؛ فكانت رسالة سماوية تدعو للتكافل وبناء العلاقات القائمة على الإنسانية من منظور الحقوق والواجبات.
إلا أنَّ التغيير الذي تشهده المجتمعات بشكل عام، والمجتمعات العربية بشكل خاص في القرن الحادي والعشرين، نتيجة للثورة الاقتصادية وتغلب المادة على الحياة بصورتها العامة، أسهم في إحداث فجوة كبيرة بين السعي نحو المادة كهدف، وبين التمسُّك بالقيم الإنسانية القائمة على احترام الأفراد من مبدأ المساواة في التعامل؛ مما خلق الطبقية والعنصرية في ظهور حديث لها، نتجت عنه تأثيرات كبيرة في صناعة أفكار تنادي بالتمييز والحقوق المدفوعة الثمن، نظير سلبها من الآخرين تحت مظلة الشراء المالي لها، وهو شكل أجوف من العنصرية التي رسختها أفكار الرأسمالية في المجتمعات؛ مما أوجدَ شرخًا في القيم والأخلاق، وأسهم في سيادة الأحقاد والبغضاء بين أفراد المجتمع، بشكل أدى لضعف كيان المجتمع وتماسكه؛ مما أدى لظهور مجتمعات ترفيه لا تؤمن إلا بالمادة.
أمَّا في المجتمعات المتحضرة، والتي تنظر للإنسان على أنه مواطن له حقوق وواجبات مهما كان مُسمَّاه الوظيفي، أو مكانته الاجتماعية أو ما يمتلكه من أموال وشركات كبيرة؛ فهو مواطن وله حقوق وعليه واجبات، فهذا رئيس الوزراء البريطاني يذهب للسوق بدراجته الهوائية ويقف بالطابور أثناء المحاسبة ودفع ثمن البضاعة ولم يطلب تقديمه بالطابور، ولم يسمح له الآخرون بتجاوزهم -إنها المواطنة الحقيقية- وهذه المستشارة الألمانية تقف في ذات الطابور في مكان آخر، وفي النمسا تقوم الشرطة بمخالفة الرئيس وزوجته لأنه خرق الحجر الصحي؛ فالكل سواسية في القانون والمعاملة؛ لذا تتقدَّم هذه المجتمعات عندما تطبق الديمقراطية ومبادئ المواطنة في تعاملاتها اليومية؛ فتبني مجتمعات ذات فكر حديث يحارب العنصرية، في حين أننا في الدول العربية نستورد الأفكار الرأسمالية التي تبني أفكاراً هدامة للقيم والمساواة، فتخلق مجتمعات تعيش أوهام الغطرسة والظلم وتغيب فيها المنظومة الدينية، ويتحوَّل الأفراد إلى فئات وفق ما تمتلكه من أموال.
فتُوجِد أفرادًا يؤمنون بالمادة أكثر من إيمانهم بالقيم والمبادئ الإنسانية؛ حيث تسعى العديد من المؤسسات المالية (البنوك) إلى تقديم حزمة من المميزات التي تمنح العنصرية للفرد نتيجة سلب تلك الحقوق من الآخرين، فيشعر طرف بالسعادة لأنه تجاوز الجميع وهم يقفون في انتظار الدور، وهو يتقدم بالرقم دون غيره، في حين الآخرون يشعرون بالظلم وغياب الحقوق، هذا النوع من التمييز يعدُّ من أخطر الممارسات التي تقدم في قالب فئة (VIP) لأنها تعامل الفرد وفقا لما يملك من أموال، ولا تُعَامِله من منظور المساواة بين الجميع؛ مما يُساعد على هدم كل أساسيات المجتمعات وتصنع طبقية تساعد على سيادة الظلم والاستبداد بين الأفراد، فيصبح المجتمع هشًّا أمام التغيير القيمي؛ حيث تُصبح الحقوق حقًّا معتبرًا للأغنياء وسلعة تُسلب من الفقراء.
إنَّنا أمام مرحلة تتطلَّب مُعالجة بعض المغالطات القيمية التي تمارسها المؤسسات المالية؛ فمن ينظر لها على أنها مُميزات تقدَّم وفقًا للبطاقة المالية التي يمتلكها الفرد فهي تطبق مبدأ "إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق"، قد تكون استمرارية هذا الفعل له تأثيرات مستقبلية قد تأخذ أبعاداً اجتماعية تؤثر على تماسك المجتمع، وأخطر ما يُمكن الحديث عنه أن يتعرض كيان المجتمع للتفكك والخلل بين الروابط والأسس التي يقوم عليها؛ لذا فإنَّ مُراجعة بعض هذه المغالطات تتطلب تدخل فاعلاً من البنك المركز العماني لوضع الضوابط وتحييد الممارسات التي تحفظ الحقوق وتقدم إطاراً وطنياً يحمي الجميع من تعرضه للتمييز بقصد أو بدون.