"معجزة" التعليم في سنغافورة

 

د. حميد بن مسلم السعيدي

يعتقدُ الحالمون أنَّ ما حدث في سنغافورة هو معجزة؛ لأنها أحدثت التغيير في كافة مجالات الحياة وخاصة قطاع التعليم، الذي كان مصدر التغيير والتطوير في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذا الاعتقاد نابع من جهلهم بتفسير هذا التطور الهائل الذي حدث في هذا الإقليم الفقير بموارده؛ لأنهم عجزوا عن إحداث التغيير في أوطانهم، فقالوا إنها معجزة.

في حين أن زمن المعجزات قد انتهى في وقته، وهذا ما أشار إليه لي كوان مؤسس سنغافورة الحديثة عندما قال: "أظن أنني لم أقم بالمعجزة في سنغافورة أنا فقط قمت بواجبي فخصصت موارد الدولة للتعليم وغيرت مكانة المعلم من الطبقات الدنيا في المجتمع إلى المكان اللائق بهم وهم من صنعوا المعجزة التي يعيشها المواطنون الآن".

هذا ما يؤكد عليه مؤسس سنغافورة الحديثة أن التعليم كان الطريق نحو التطور، وأن المعجزة الحقيقية كانت في الموقف الصفي، عند ذلك المعلم الذي تمكن من تقديم أسمى وأرقى مهاراته التدريسية للوطن فكان الإخلاص والأمانة والعمل والإرادة الحقيقية والقيادة التعليمية الفاعلة هي التي صنعت ذلك التغيير، رغم قلة الموارد الطبيعية، والفقر المحدق الذي كانت تعيشه سنغافورة في بداية تأسيسها عندما تم طردهم من الاتحاد الفيدرالي الماليزي، ففي عام 1965م صوّت البرلمان الماليزي بالأغلبية على طرد سنغافورة من الاتحاد، وبعدها تم إعلان جمهورية سنغافورة المستقلة، وكان أقوى تحدٍ يواجه الحكومة هو كيفية صناعة هوية قومية مشتركة تجمع كل القوميات المختلفة التي تتكون منها سنغافورة، وهي (الصينين، والهنود، والملايويين، والأوروبيين، والعرب)، فكانت المدرسة هي بوابة سنغافورة نحو الحضارة الجديدة.

عند الحديث عن التعليم في سنغافورة، فإننا نتحدث عن الدولة الأفضل على مستوى العالم في منظومة التعليم المدرسي والجامعي، وكان هذا التعليم هو السبب الرئيسي لما نشاهده من حضارة متقدمة في كافة المجالات. ويشير بعض المختصين إلى أنها تجاوزت أوروبا في التقدم الحضاري، وما يتمتع به المواطن من مستوى دخل مرتفع وحياة كريمة يتمتع بأجود الخدمات التي تقدم له، وهذا كان ثمرة العمل الجاد والمخلص الذي كان هدفه المصلحة الوطنية العليا، فكان الجميع يعمل ويجتهد إلى أن وصلت سنغافورة إلى هذا المستوى الحضاري المتقدم، فأصبح من الصعب العيش والذهاب إليها لمن لديه دخل منخفض، فكيف ساهم التعليم في صناعة هذه الحضارة المتقدمة؟

كانت الظروف الاقتصادية صعبة، فكان الأمر شبيهًا بالخروج من عنق الزجاجة، إلّا أن المدرسة كانت هي مصدر ذلك التغيير والتطوير، لأن التحدي كان كبيرًا بالنسبة لجميع المواطنين، فاستفادت المدرسة من الكفاءات الوطنية، وشجعت المفكرين والباحثين والأساتذة على إعداد المناهج الدراسية التي تصنع العقول المفكرة والمنتجة، وهذه الثقة الوطنية كانت أحد عوامل ذلك، إذ شعر الجميع بدوره الوطني في عملية التغيير والتطوير، مما أدى إلى تطوير المخرجات المدرسية، وارتفاع مؤشرات التنصيف العالمي في التعليم بشكل تدريجي إلى أن وصلت إلى قمة التنصيف في التعليم في العصر الحديث، فالأمر لم يكن مستحيلًا في وجود قادة للتعليم هدفهم الوطن أولًا، واليوم يقف المُعلم شامخًا وهو فخور بتلك الإنجازات يفخر بها الوطن لأنه حقق مجدًا عظيمًا لبلده.

لم يأت ذلك المجد لأنهم طرقوا أبواب المنظمات الدولية، وبيوت الخبرة، أو ذهبوا للدول المتقدمة في التعليم، وإنما ذهبوا إلى الإرادة الذاتية وعقل المواطن، والكفاءات الوطنية المخلصة فكانت تلك الثمار التي أبهرت العالم، في حين أن هناك العديد من دول الشرق الأوسط تتغنى بالمناهج المستوردة وخبرائها الأجانب، والموارد المالية الضخمة التي تنفق على التعليم، في حين أنها تأتي متأخرة في تنصيف التعليم.. فلماذا؟

التركيز على بناء الفكر والبحث عن المعرفة، ونقدها وتحليلها وتفسيرها، وصياغة الاحتمالات والافتراضات وبناء المعرفة الجديدة، والبحث عن الأفكار في عقولهم وتحويلها إلى منتجات حديثة، والحث على الإبداع والابتكار، وتعزيز المواهب، وتعميق التعليم، وانتقاله من السطحية إلى العمق البنائي المعرفي، كان سببا ً في تقدم التعليم ووجود مخرجات أسهمت بشكل مباشر في الاقتصاد الوطني، إذ أصبح الإنسان هو المورد الاقتصادي في إقليم ضعيف بالموارد الطبيعية، فساهمت تلك الأفكار والرؤى في تقدم سنغافورة.

كما أسهمت القيادة التعليمية بدور أساسي في نجاح التعليم في سنغافورة وتصدره قائمة التنصيف العالمي، وذلك بما تتصف به من الرؤية المستقبلية الواضحة للمستقبل والرغبة في تغيير الواقع الحالي، وامتلاكها القدرة على الاتصال بطريقة فعالة مع الفريق، وامتلاك مهارات الإلهام وتحفيز للعمل بجهد، وصياغة الأهداف المشتركة، والصبر والتحمل من أجل النهوض بالتعليم رغم التحديات والصعاب، والثقة بالنفس، وتحقيق العدالة والمساواة، والتخطيط والتنظيم، وتوظيف الديمقراطية كأحد أدوات الاستفادة من الكفاءات الوطنية، وامتلاك الوعي القيادي في فهم السياق المحيط بالتعليم وتحليل الفرص والإيمان بالقدرة على رفع مكانة الوطن.