"سُلطانة".. التي عبرت البحار والتاريخ!

 

 

حسين الراوي

 

في قلب الخليج العربي، حيث تتنفّس الجبال الصبر، وتهمس الصحراء بالحكمة، وتغنّي البحار بأسرار التجّار والرحّالة، تشكّلت سلطنة عُمان ككيانٍ حضاريّ فريد، يتنقّل بين الزمن والفضاء بهدوءٍ ثابت، كما لو أنّ التاريخ نفسه يجري في عروقها.

يمتد الساحل العُماني حوالي 3,165 كيلومترًا، ويبدأ شمالًا عند مضيق هرمز في شبه جزيرة مسندم على الخليج العربي، ثم يمتد شرقًا وجنوبًا على طول بحر عُمان وبحر العرب، ليصل إلى الحدود مع اليمن جنوبًا. هذا الساحل الطويل منح العُمانيين علاقة وطيدة مع البحر منذ القدم؛ إذ تعلموا من قربهم منه فنون السباحة والإبحار وصناعة السفن، لتصبح خبرتهم البحرية إرثًا متوارثًا يضاهي خبرة العديد من الشعوب حول العالم.

ومنذ قرونٍ بعيدة، لم تكن البحار في الوعي العُماني حواجز تفصل، بل جسورًا تصل. ففي القرن الخامس عشر، بزغ نجم الرحّال والبحّار العُماني العظيم أحمد بن ماجد، أسد البحار وأمير الربابنة، الذي حوّل النجوم إلى لغةٍ ملاحية، وجعل من الرياح والتيارات خرائط حيّة تحفظ الأرواح وتفتح الآفاق. لم يكن ابن ماجد بحّارًا عابرًا، بل عقلًا علميًّا سبق عصره، دوّن خبرته في مؤلفات خالدة، أبرزها «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد»، ليؤسّس مدرسة ملاحية عربية رسّخت حضور عُمان كقوة معرفة، لا مجرد قوة شراع. ومن هذا الإرث العميق وُلدت روح المغامرة الهادئة التي حملت السفن العُمانية إلى أبعد من حدود المألوف.

وفي عام 1840، تجسّد هذا الإرث في رحلةٍ استثنائية حين أبحرت السفينة العُمانية «سلطانة» قاطعة آلاف الأميال عبر المحيط الهندي، ثم رأس الرجاء الصالح، فالمحيط الأطلسي، وصولًا إلى شواطئ نيويورك، في واحدة من أقدم المبادرات الدبلوماسية العربية نحو الولايات المتحدة الأمريكية. رحلةٌ امتدّت لما يقارب 11,000 إلى 12,000 كيلومتر، لم تكن اختبارًا لقوة الخشب والأشرعة فحسب، بل امتحانًا لإرادة أمةٍ تعرف طريقها وسط العواصف.

على متن «سلطانة» كان المبعوث العُماني أحمد بن نعُمان الكعبي يحمل رسائل وهدايا من السلطان سعيد بن سلطان البوسعيدي، رجل الدولة الذي أدرك مبكرًا أنّ العالم الجديد لا يُخاطَب بالقوة، بل بالاحترام وبناء الثقة. وُجّهت تلك الرسائل إلى رئيس الولايات المتحدة آنذاك مارتن فان بيورين، لتكون جسرًا حضاريًا بين الشرق والغرب، بلا مدافع ولا تهديد، بل بحكمة السياسة ونُبل المقصد.

كانت هذه السفينة أكثر من مجرد بعثة رسمية أو مركب خشبي، فقد كانت رمزًا لطموح حضاري صاغته عُمان بهدوء، ورسمت به حضورها عبر البحار بعزمٍ صامت. كانت الأمواج تختبرها كل يوم، وكانت الرياح تحاول كسر إيقاعها، لكنها لم تفقد اتجاهها، تمامًا كما لم تفقد عُمان هويتها وهي تعبر تحولات التاريخ.

وحين رست «سلطانة» في ميناء نيويورك، لم تصل سفينة فحسب، بل وصل صدى حضارةٍ ضاربة في الزمن، تُذكّر العالم بأن القوة الحقيقية ليست في الصخب، بل في الصبر، وأن الدبلوماسية الأعمق هي تلك التي تُبحر قبل أن تتكلّم، وتُقنع قبل أن تفرض.

وهكذا، لم تكن «سلطانة» مجرد رحلة بحرية عابرة، بل فكرة أبحرت في التاريخ، تقول إن الأمم العريقة لا تحتاج إلى ضجيج كي تُرى، ولا إلى قوةٍ فظة كي تُحترم. من شراعٍ عُماني هادئ، ومن بوصلةٍ تعلّمت القراءة من النجوم، وصلت رسالة عُمان إلى العالم: أن الحضارة الحقيقية هي التي تعرف طريقها دون أن تضل، وتحفظ توازنها بين الجذور والآفاق. وكما عبرت «سلطانة» البحر يومًا، ما تزال عُمان تعبر الزمن بثباتٍ نادر، تحمل هويتها كرايةٍ خفاقة، وتترك أثرها حيث ترسو القيم قبل السفن.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z