الأمن القومي العربي 3 – 3

عبيدلي العبيدلي

 

وقبل تناول موضوع التهديدات ذات الطابع الأمني التي تُحيط بالبلاد العربية، والانطلاق من ذلك لتحديد مفهوم علمي لمنظومة الأمن القومي العربي، لابد من الاعتراف بغياب تعريف مُحدد متفق عليه عربياً يحصر معالم هذا الأمن ومقوماته. هذا ما يفصح عنه صراحة الأمين العام للجامعة العربية، في كلمته التي ألقاها في القمة العربية 18 التي عقدت في العام 2018 في الرياض، حين أكد على "أن غياب التوافق على مفهوم الأمن القومي العربي يُعد السبب الرئيسي في أزمات المنطقة العربية، وأن تآكل حضور العرب الجماعي في معالجة الأزمات هو ما يُغري الآخرين بالتدخل في شؤونهم والعبث بمُقدراتهم، (مضيفًا) أن التحديات الحالية تفرض على الجميع التفكير في إجراء حوار جاد ومعمق حول الأولويات الكبرى للأمن القومي العربي، وبحيث يجرى تدشين توافق أكبر حولها وتناغم أوسع في شأن كيفية ضبط إيقاع تحركنا الجماعي والمشترك إزاء كل التهديدات".

في السياق ذاته، وعند الحديث عن الأمن القومي العربي، لابد من الإشارة هنا إلى خاصية تنفرد بها المنطقة العربية دون سواها من الأمم الأخرى، وهي عمق التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، بفضل موقعها الجيوسياسي، وهو ما يشير له الكاتب أحمد أمين عبد العال، حين يقول في تناوله لموضوعة الأمن القومي العربي،"على الجانب الآخر فإنَّ الموقع الجغرافي للمنطقة العربية أدى إلى تزايد التدخلات الأجنبية فيه سواء من الدول الكبرى كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، أو الدول الإقليمية كإيران وتركيا في الوقت الحالي، مستغلين ضعف جامعة الدول العربية وعجزها عن مواجهة الأخطار التي تهدد الأمن القومي العربي فعلياً بسبب اختلاف مصالح وتطلعات وطموحات دولها".

في اتجاه آخر، يفسرالباحث سامي صالح الكعبي أسباب غياب الاتفاق العربي على أمن قومي مُتكامل، بسيادة النزعة القطرية على نظيرتها القومية في مُعالجة القضايا الأمنية، ويشخص ذلك في نظرة سوداوية تكشف معاناة "دول النظام الإقلیمي العربي من تدهور متزاید في بیئة الأمن القومي الخاصة بها، نتیجة لحالة الانقسام والفرقة التي تمزق أوصال دول هذا النظام بین مصالح قطریة متنافرة، واختراقات خارجیة تضرب أمن الدول العربیة في القلب، وتدفعها نحو حالة من التبعیة الأمنیة للخارج، بعیداً عن التكاتف الذي یفرضه واقع الانتماء لإقلیم توافرت له من عو امل التشابه ومقاومات التماثل ما لم یتوافر لغیره من الأقالیم الأخرى التي حققت مستویات عالیة من التعاون الأمني، رغم حداثة نشأتها، مقارنة بالنظام العربي، ولكنها المصالح القطریة الضیقة التي دفعت نحو الانكفاء الداخلي، والتركیز على حمایة تلك النظم، حتى في مواجهة شعوبها ومواطنیها، وأشقائها الدول العربیة الأخرى... وكان لغیاب الإستراتیجیة العربیة الموحدة وتنامي القوى السیاسیة لدول النظام الإقلیمي العربي بسرعة، ومیل كل منها نحو صناعة عمق إستراتیجي لقوتها، الأثر البالغ في تنامي التحدیات لبیئة الأمن القومي العربي، الأمر الذي سمح لتقسیم العمق العربي إلى وحدات إقلیمیة أصغر".

يشارك الكعبي، في كون التجزئة هي أقوى عامل سلبي أمام أي مشروع يسعى لبناء منظومة أمن قومي عربي متكامل، الكاتب محمد ولد دده في بحثه القيم الموسوم "التجزئة السياسية والأمن القومي العربي"، حين نجده يشير في وضوح ناصع إلى أن "الحديث عن أمن قومي عربي يضعنا أمام مفترق صعب يجب فيه التمييز بين مستويين من الأمن؛ الأول يفرضه واقع التجزئة وهو الأمن القومي لكل قطر من أقطار التجزئة على حدة، والثاني تفرضه حقائق التاريخ وعوامل الجغرافيا وهو الأمن القومي العربي الشامل.  وقد انقسم الدارسون لظاهرة الأمن القومي العربي من هذه المسألة إلى رأيين : الأول: يرتكز على القطرية كأساس للأمن القومي. وبالتالي ينطلق من الحدود السياسية للدولة القطرية والتزاماتها الداخلية والخارجية القائمة، ومصالحها القطرية، كمنطلق لترتيب الأولويات على مستوى بناء الإستراتيجيات والسياسات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية ضمانا لأمنها القومي".

من هنا فإنَّ الحديث عن "أمن قومي عربي" معرض للانهيار، في ظل الانقسام السياسي الذي تعاني منه البلاد العربية، على المستوى القومي العام، دع عنك التشظي على الصعيد الداخلي. وبالتالي فإنَّ أي محاولة لتصميم منظومة الأمن العربي مطالبة بأن يدخل في صلب هيكلها النظري ومكوناتها التنفيذية، التصدي لحالة التمزق العربي، والانطلاق من منصة تكون الوحدة العربية، بمفهومها القابل للتنفيذ هي الدعامة الرئيسة لها.

وينبغي التشديد على أن يكون المشروع الوحدوي قابل للتنفيذ، كي يتحاشى مشروعات الوحدة العربية السابقة التي حملت أجنة فشلها في رحمها، الأمر الذي أدى إلى نشر نظرة سوداوية متشائمة ساهمت في الترويج للمشروعات التقسيمية التي كانت السبب الرئيس الكامن وراء إمكانية نجاح أي مشروع أمن قومي عربي.

 على نحوٍ مواز، هناك مسألة الرضا المجتمعي، والذي يصعب تحقيقه في غياب الحضور الشعبي السليم في صنع القرار السياسي. فما لم تسد البلدان العربية، كل على حدة، وفي منظومة قومية واحدة نظما ديمقراطية، بالمفهوم المعاصر لكلمة الديمقراطية، وبكل ما تحمله الكلمة، من تنظيم واضح المعالم للقنوات التي تحدد العلاقات بين السلطات الثلاث: التشريعية، والقضائية، والتنفيذية.. ما لم يتحقق ذلك، يصبح الحديث عن الأمن القومي العربي حديثاً طوباويًا، أن لم يكن عبثيًا، الأمر الذي يجعل من هذا الأمن الذي يفتقر إلى الديمقراطية، خاصرة رخوة يمكن اختراقها في أية لحظة من قبل القوى المتربصة بالبلاد العربية، عدوة تلك القوى أم منافسة.

تأسيسًا على ذلك، يمكن القول إن تعريفات الأمن القومي العربي، مهما اختلفت صياغاتها، لكنها تلتقي جميعها حول ما لخصته الكاتبة سهام بوزيد "هو قدرة الدولة العربية في الدفاع عن أمنها الوطني والقومي من التهديدات التي تستهدف حقوقها وسيادتها على أراضيها وقيمها، أو تعريض شعوبها للخطر الذي يعني التهديد الشامل لقدراتها الاقتصادية ومواردها البشرية، ويؤثر سلباً على وضعها السياسي والاجتماعي".