الشعر على وضوء...!!

 

محمد علي العوض

 

بلغ كلف العرب بالشعر وتفضيله "أنْ عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي... (أقمشة من كتّان كانت تنسج بمصر) وعلقتها في أستار الكعبة" فمنه يقال: مذهبة امرئ القيس، ومذهبة زهير... وقد يقال لها المعلقات" كما أورد ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، وابن رشيق في كتابه "العمدة".

وذكر البغدادي في "خزانة الأدب" أنّ الرجل في الجاهلية يقول الشعر فلا يعبأ به أحد حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرض شعره على أندية قريش فإن استحسنوه رُوي وعُلَّق على ركن الكعبة حتى يقرأه الناس، ويعضد ابن خلدون ما سبق بأنّ العرب كانوا يعلقون أشعارهم بأركان الكعبة كما فعل أصحاب المعلقات السبع، ولكنه – ابن خلدون يحصر الأمر على علية القوم بقوله: "إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر".

في المقابل ينفي فريق آخر أن تكون المعلقات قد عُلّقت بالكعبة، فالمستشرق (نولدكه) أرجع سبب تسمية المعلقات إلى كلمة "عِلْق" ومعناها الشيء النفيس. وكذلك "كليمان هوار" الذي يرى أنّ المعلقات جمع معلقة؛ بمعنى القلادة؛ والدليل أنّهم يسمونها أيضاً (السموط) ومفردها سمط وهو العقد أو القلادة. بينما يصف "شوقي ضيف" تعليق المعلقات على أستار كعبة بالأسطورة حيث يقول: "أمّا ما يقال من أنّ المعلقات كانت مكتوبة ومعلّقة في الكعبة فمن باب الأساطير، وهو في الحقيقة ليس أكثر من تفسير فسّر به المتأخرون معنى كلمة "المعلقات" كما جاء في "العقد الفريد".. ويضيف شوقي أنّهم لو تنبهوا إلى المعنى المراد بكلمة "المعلقات" ما لجأوا إلى هذا الخيال البعيد، ومعناها: المقلَّدات والمسمّطات، وكانوا يسمون فعلاً قصائدهم الطويلة الجيدة بهذين الاسمين وما يشبههما، ويجزم أنّه لا يوجد دليل مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم، فالعربية كانت لغة مسموعة لا مكتوبة، مستدلا بقول شاعرهم: (فلأهدينّ مع الرياح قصيدة ***منّي مغلغلة إلى القعقاع).

ويرى أبو جعفر النحّاس المتوفي سنة 338هـ أنّ حمّاد الراوية "95-155هـ" هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت أنّها كانت معلّقة على الكعبة، وهو ذات قول "كارل بروكلمان" حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره.

ويعزو المهتمون بالأدب اعتراض بعض المحدثين على حقيقة تعليق المعلقات في أستار الكعبة إلى أمرين: أولهما أنّ الكعبة لها من الخصوصية والتقديس ما لا يبيح أنْ تعلّق فيها المدوّنات والمكتوبات. وثانيهما أنّ العرب كانوا في جاهليتهم أميين، لا يحسنون القراءة ولا الكتابة، ولم تبلغ بهم المعرفة حدّ أن يكتبوا أشعارهم فقد كانوا أمة أميّة جاهلة لا حظ لها من علم أو معرفة أو كتابة، حيث يقول الجاحظ: "وكل شيء للعرب فإنّما هو بديهة وارتجال.. ثم لا يقيده "العربي" على نفسه ولا يدرسه أحدًا من ولده، وكانوا أميين لا يكتبون". وابن سعد في طبقاته بعد أن يورد عددًا كبيرًا من الرجال الذين كانوا يكتبون في الجاهلية يعقب بالقول "وكانت الكتابة في العرب قليلة".

وأيا كانت الكفة الراجحة بين الفريقين فالحقيقة الراسخة "أنّ الشعر كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه" كما ورد عن سيدنا عمر بن الخطاب. وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة واجتمعت النساء يلعبن كما يصنعون في الأعراس، ولم يكونوا يهنئون بعضهم إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تنتج. وكان الشعراء ألسنة قبائلهم وذوي الرأي فيهم، يندبونهم عند الملمات ويستعينون بهم وقت الشدائد ويلجؤون إليهم في الحروب كما فعل سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية حين خاطب الشعراء أمثال الشماخ والحطيئة وأوس بن مغراء وعبدة بن الطبيب، قائلا: "انطلقوا فقوموا في الناس بما يحق عليكم ويحق عليهم عند مواطن البأس. فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم، فسيروا في الناس فذكروهم وحرضوهم على القتال".

وكان الشعر ديوان فضائل العرب وسجل مفاخرها ووسيلة تخليد مآثرها، ويقول الجاحظ في "الحيوان" إنّ كل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال، وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى وكان ذلك هو ديوانها. ويقول ابن سلام: "كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون.

ويعد الشعر من أشرف الكلام عند العرب وأقدسه كما قال ابن خلدون في مقدمته: "اعلم أنّ فن الشعر بين الكلام كان شريفا عند العرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم، وشاهد ثوابهم وخطئهم، وأصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم، وكان رؤساء العرب منافسين فيه وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده".

ويؤكد ابن قتيبة في "طبقات الشعراء" مهمة الشعر عند العرب حين يقول: وللعرب الشعر الذي أقامه الله مقام الكتاب لغيرها، وجعله لعلومها مستودعًا ولآدابها حافظا ولأنسابها مقيداّ ولأخبارها ديوانا، لا على الدهر ولا يبيد على مرّ الزمان، وحرسه بالوزن والقوافي وحسن النظم، وجوّدة التحبير من التدليس والتغيير. وكان الشعراء في الجاهلية بمنزلة الحكام يقولون فيُرضى قولهم، ويحكمون فيمضي حكمهم؛ وصار ذلك فيهم سنةّ يقتدى بها وآثارا يحتذى عليها.

وكان العرب إذا احتاجوا معرفة معنى كلمة أو لفظ نادر بحثوا عنه في الشعر بوصفه ديوانا متفّقا عليه ويرضون بحكمه.

وكانوا يخافون لسان الشاعر ويتحامون هجاءه، ونهوا عن أن يتعرّض أحد لشاعر خشية لسانه فقالوا: لا ينبغي لعاقل أن يتعرّض لشاعر، فربما كلمة جرت على لسانه فصارت مثلا آخر الأبد. وقريب من هذا حكاية أبو سفيان بن حرب مع الشاعر الأعشى حيث عزم على القدوم إلى

النبي الكريم فحاول أبو سفيان تنفيره حتى لا يمدح الرسول بقصيدة يطير ذكرها بين أرجاء الجزيرة، لكنّ الأعشى لم يعبأ بذلك، فلم يجد أبو سفيان أمامه سوى ترغيب الأعشى فقال: يا معشر قريش، هذا الأعشى والله لو آمن بمحمد واتبعه ليضرمنَّ عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له مائة من الإبل، ففعلوا ذلك، فأخذها الأعشى وعدل عن الذهاب إلى النبي وانطلق إلى بلده، فمات في الطريق.

وكان للشعر تأثير كبيرا في نفوس الناس ومشاعرهم لما يستعملونه من كلام مؤثر ساحر يترك أثرا خطيرا في نفس سامعه؛ ولهذا عدوا السحرة في جملة أوائل من كان ينظم الشعر من القدماء. وروى عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنّه قال: كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم وكانوا يسمون الشاعر العالم والحكيم.

وثمة أخبار تدل على أنّ العرب كانوا يُقدسون الشعر ولذا ذكر الأصمعي أنهّم كانوا ينشدون الشعر على موتاهم قبل نزول القرآن، ومما يؤكد هذه القدسية أنّهم كانوا يتخذون فن الشعر وسيلة للتقرب إلى الله في موسم الحج فيلبون بأشعار معينة وهم يطوفون حول الكعبة، ومن ذلك أيضًا ما ذهب إليه أبو عمرو بن العلاء من أنّ بعض الشعر في الجاهلية كان لا ينشد إلاّ على وضوء كالذي فعلوه مع قصيدة المتلمس "الميمية" وكما فعل عمرو بن هند حين أمر "الحارث بن حلزة" ألا ينشد قصيدته "الهمزية" إلا متوضئاً.