الحدث في قصة سيدنا موسى (1)

محمد علي العوض

قصة سيدنا موسى هي القصة الأكثر وروداً في القرآن الكريم، وقد ساقها المولى -عز وجل- مُفرَّقة على عدد من الآيات والسُّور. ولتعدُّد مواضع قصِّها تميزت بالطبع بكثرة الأحداث والمشاهد؛ إذ لا قيمة للقصة أو الرواية بلا حدث، والذي يعد بمثابة العمود الفقري للرواية. ويُعرَّف بأنه مجموعة من الوقائع -سواء كانت منتظمة أو مبعثرة- وما الحدث إلا اقتران زمان بفعل؛ ولإبرازِ هذا الحدث لابد من رسم المشاهد والمواقع؛ أي المكان الذي يدُور فيه، ومن خلال الحدث تتفرَّع الأحداث الصغيرة وردَّات الفعل وانفعالات الشخصية وحركاتها؛ لأنَّ ارتباط الشخصية بالحدث هو ارتباطٌ عضويٌّ، ولا يستقيم النص بدونه؛ إذ إنَّ لكل حدث فاعلًا كما أنَّ لكل مُحرك محركًا - كما قال أفلاطون.

والسَّارد الحاذق هو من يَبرع في اختيار الأحداث، وربطها موضوعيًّا في سلسلة متصلة من الوقائع والمشاهد. وبلغ أمر العناية بالحدث قول بعضهم إنَّ الحدث هو أهم عناصر القص فـ"كل ما في نسيج القصة يجب أن يقوم على خدمة الحدث، فيُسهم في تصوير الحدث وتطويره؛ بحيث يُصبح كالكائن الحي؛ له شخصية مستقلة، يُمكن التعرف عليها؛ فالأوصاف في القصة لا تُصاغ لمجرد الوصف، بل لأنها تُساعد الحدث على التطور، لأنّها في الواقع جزء من الحدث نفسه".

وفي قصة سيدنا موسى، يحافظ تكرار القصة في عدد من المواضع والسور على وحدتي الشخصية والحدث، والملاحظ أنَّه كلما تكررت القصة في سورة ما، قدَّمت زيادة ووقائع وأحداثا جديدة لم ترد في المواضع والسور الأخرى، كما تأتي زاخرة بالمشاهد والحركة وانفعالات الشخصيات في القص.

وتبدأ حركة الأحداث في قصة سيدنا موسى منذ قبل ولادته؛ فقد بدأت القصة في موضع "سورة القصص" بعرض سمات الشخصية الفرعونية، وما تتَّصف به من علو آثم وتجبّر "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ)؛ فبسبب زعم كُهَّانه بأنّه سيولد في بني إسرائيل من يكون سببا في ذهاب ملكه، أمر بقتل كل مولود جديد لبني إسرائيل "يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين".. وبناءً على انفعال فرعون وقراره الظالم، تتناسل أحداث وردَّات فعل أخرى كرد فعل أم موسى التي خافت على وليدها، فألقته في اليمِّ ليلقى مصيره من العناية الإلهية، بدلا من مصيره على يد البشر "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ".

وتَشَاء الارادة الإلهية قيام حدث آخر في مكان آخر وزمان آخر، يصوِّر التقاط آل فرعون في النهر لطفل رضيع "فالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ"، وليتم جلبُه لامرأة فرعون فتفرح به؛ لينفتح المشهد بعدها على حوارية وسط الحدث، تدور بين فرعون "المنفعِل" وزوجته "المحرُومة من الولد"، وقولها: "قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا"، فيرضخ فرعون صاغرًا لطلبها بتربية الولد واتخاذه ابنًا.

وقد قسَّم نبهان السعدون قصَّة موسى إلى 4 أحداث كبيرة، يحتوي كل حدث فيها على عدد من الأحداث المترابطة ومتناهية الصغر.. وعد مرحلة ما قبل رسالة موسى حدثا أول تتفرَّع عنه الأحداث، وتابع بين ولادته وما تبعتها من انفعالات أمِّه، وقولها "لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ"، لتتبع أثره ومعرفة أخباره، ثم تربيته في قصر فرعون، وإرضاع أمه له بعد أن رفض كل المراضع، ثم قتله لأحد أتباع فرعون بعد أن استغاث به أحد شيعته -أي من بني إسرائيل- على عَدُوِّهِ "فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ"، ليخرج بعدها إلى مدين، وتصل بنا الأحداث بعد ذلك إلى حدث قصته مع ابنتي نبي الله شعيب بعد ورود "مَاء مَدْيَنَ"؛ حيث "وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ"، ليرق قلب موسى لضعفهما، ويدور حوار يتخلل الحدث؛ يبدأه موسى بسؤال "مَا خَطْبُكُمَا"، ولتجيباه: "لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ"، وبعد أن يسقِي لهما موسى يأوي إلى الظل، ويخاطب ربَّه ويدعُوه بتسهيل الرزق، فيستجيب الله دعاءه بمجيء إحدى البنتين، وطلبها من موسى الذهاب معها لأبيها ليأخذ أجر سقيه لهما، وترصد الآيات هنا حوارية بين شعيب وموسى، حين قدم إليه مع ابنته "وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، ويتواصل المشهد الحواري بقول إحداهما: "يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ"، ليجيب شعيب عليه وعليها: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ"، وتصوِّر الأحداث موافقته بقوله: "ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ".

يمتزجُ الحدث بالوصف أحيانا، وعندها يكون أكثر تأثيراً؛ فالوصف كما يقول أهل النقد "يعكس جميع الدلالات الفكرية والظلال النفسية والشعورية التي تسبح في عوالم الوعي واللاوعي إزاء المواقف المنوّعة، وعن طريق الوصف أيضاً كما هو معروف يُمكن رسم الأشكال والأبعاد الخارجية التي تُحَسُّ بوسيلة من وسائل الإحساس". وقد حفل القسم الأول هذا بعدد من أوصاف الشخصيات وانفعالاتها، بدأت بتصوير فرعون كشخصية سوداوية شريرة، ثم صوَّرت شخصية قلب الأم الرقيقة، وهي في قمة حزنها وخوفها على وليدها، ثم تصوِّر شخصية موسى بصورة جسمانية قويّة وثابتة، تُدلِّل عليها ثلاثة مواضع؛ الأول: ثباته في اليم، والثاني: قتله للمصري الذي ليس من شيعته بوكزة واحدة فقط، والموضع الثالث: تمكُّنه من السقي لابنتي شعيب بعد مزاحمته للرعاة في البئر. كما تُوضِّح إجابة ابنتي شعيب: "لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدر الرّعَاء" ما في الأنثى من ضعف وحياء، يدفعها للتقهقُر في مثل هكذا مواقف، ولا ننسى تصوير الآيات لشخصية سيدنا شعيب بـ"أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيْر" في هذه اللحظة من التاريخ بأنَّه بلغ من العمر عتيًّا، ولا يقدر على المجيء.