قصيدة النثر.. إيحاءات بلا نهاية (2-2)

 

محمد علي العوض

في عصر الهندسة الوراثية، وحيوان "الكاما" الناتج من توالد بعير "عربي" مع أنثى حيوان "اللاما" اللاتيني لم يعد لنقاء الأجناس الحياتية مكانٌ في عالم اليوم؛ بل حتى الأدب في زمن الحداثة وما بعدها لم يعد يملك أسواره وقواعده الحصينة؛ وصارت الأجناس الأدبية بلا تمايز، فقد انماعت الحدود بين الشعر والنثر كما وصفها د. إبراهيم عوض، وحلّت "الرؤيوية" أي "صوت اللاشعور" محل خطابية القصيدة التقليدية. كما خلع الشعر التقليدي القديم أغراض الفخر والرثاء والهجاء والوقوف على أطلال دار عبلة ومي؛ ليرتدي أثواب العدمية، والمعاني المتشظيّة، والقلق، وما يعايشه الشاعر من حالة شعورية.. كما استبدلت قصيدة النثر إيقاعها العروضي ذي النغم الحرفي المسموع بإيقاعٍ داخلي مجرّد يترجم بواطن الشاعر.

في كتابه "ديوانٌ إلى الأبد: قصيدة النثر/ أنطولوجيا عالميّة" يقول عبد القادر الجنابي: "إنّ جُلّ النقاد يتّفقون على أنّهم أمام جنس أدبي شاذ غرضه تهديم الأنواع. ناهيك عن أنّ شكلها الوحيد الأوحد ينطوي أيضاً على بعد تهديمي بصري وبالتالي مفهومي؛ يقوم بنسف الأفكار المسبقة والعادات المفهومية لدى القارئ الذي ما إن يرى أبياتاً أو عبارات مقطّعة حتّى يصرخ إنّها قصيدة، إذ أنّها في نظره ليست نثراً"..

وفي ذات الموضع يطرح الجنابي تساؤله حول ماهيّة قصيدة النثر؛ ليجيب: "إنّها كلُّ هذا وليس".. ويحيلنا اسم الإشارة -هذا-  لما سبق أن وسم به الجنابي قصيدة النثر بأنّها "اللاتغني، وقوة الفوضوية، واللاغرضية، والإيجاز، واللاتشطير. غير أنّه يستدرك بالقول: "لكن الشيءَ المؤكد هو أنّها نقيض قصيدة النثر العربية السائدة التي لا تلبّي مطلباً واحداً مما اتفق جلُّ النقاد عليه، رغم كل الاختلافات بينهم، بشأن قصيدة النثر.

ويشير إلى أن هناك أنماطًا من قصيدة النثر كالبارناسية، الرمزية، التكعيبية، السوريالية، الظاهراتية، والأمريكية الغارقة بقضيّة اللغة والسرد الغرائبي، ويلفت إلى أنّ الشكل واحد في كلّ هذه الأنماط، فالقصيدة هنا كتلة قوامها نثر متواصل في جمل تجانس أي نثر آخر.

يقر الناقد الجنابي بحق الشاعرٍ في أنْ يكتبَ وفق نبض أحاسيسه وصوته الخاص، وأن يسمّي مخلوقاتَهُ كما يشاء؛ لكن عليه الالتزام بذلك؛ فمصداقية الشكل والمضمون هي عين ثقة الشاعر، ويقول ربما يرى شاعر أنّ التسمية ليست ضروريّة، لكن لماذا يطلق الشاعر مسمى "قصيدةَ نثر"، على عمل اعتنى بتقطيعه موسيقياً متوسلاً كل المحاسن البديعية التي ترفضها قصيدة النثر؟.. أليس اعتباطاً أن يسمّيَ شاعرٌ يكتب عادةً أشعاراً موزونة كلَّ قصيدة لا يتمكن من ضبطها عروضياً قصيدة نثر وليس شعراً فحسب؟ وكأنّ الشعرَ في نظره ليس سوى تفعيلات قُررت سلفا".

ويرى الجنابي أنّ رفض الحدود المرسومة بين الأجناس الأدبية لا يتم إلّا عندما يعرف الشاعر ما هي هذه الحدود، وبماذا تتميز؛ حتى يكون لرفضه فضاؤه هو، مُنقى من كلّ شوائب التسميات التي كانت من طبيعة تلك الحدود المرفوضة. موضّحا أنّ الأديب الفرنسي بروتون، والذي كتب رواية بشكل شعري؛ وقف ضد فكرة الأجناس الأدبية، وكان الشعر عنده تعبيرٌ عن استرداد المخيلة البشرية لحقوقها، وليس جنسا أدبياً خاضعا لقوانين مدرسيّة، لذا لم يُسمّ الكتل النثرية التي كتبها قصائد نثر - رغم أنّ النقاد اعتبروها قصائد نثرٍ بامتياز- وبحسب الجنابي فإنّ الإصرار على تسمية عمل جوهرُه يتعارض شكلاً ومضموناً مع ما يتميّز به هذا الاسم؛ لا يخرج عن كونه فكرة اعتباطية.

ويدعو قصيدة النثر للابتعاد عن أيّة مقابلة مع الواقع، حيث لا مجال للمقارنة ولا وجه شبه بينها وبين شيء آخر؛ فقصيدة النثر لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها.

واعتمادا على مقالة للشاعر الفرنسي "لوك ديكون" يعرض الجنابي تعريفا مبسّطا لقصيدة النثر مفاده الآتي: (قصيدة النثر عمل فني كأي عمل فنّي آخر وهي ذات قابلية لتوليد انفعال خاص يختلف تماماً عن الانفعال الحسّي أو الانفعال العاطفي.. لتحقيق هذه الغاية ينبغي على قصيدة النثر أنْ تختار الوسائل المناسبة: أنْ تختار الأسلوب. بعبارة أوضح: أنْ تختار المواد المركبة للعمل المتكامل.. على قصيدة النثر أنْ تكون قصيرةً ومكثّفةً، خاليةً من الاستطرادات والتطويل والقصّ المفصّل وتقديم البراهين والمواعظ.. عليها أنْ تكون قائمةً بذاتها، مستقلةً بشكلها ومبناها، لا تستمد وجودها إلا من ذاتها، مُبعَدة ومنفصلة تماماً عن المؤلّف الذي كتبها؛ ينبغي أنْ تمتنع قدر الإمكان عن إقحام أمور لا تمت لها بصلة، وذلك لكي تتحلّى بالفنتازيا وبخفة الروح والخيال. المهم أنْ تتواجد تواجداً حرّاً داخل هامش ما. إنّ اختيار الأسلوب وتحديد المقام يفرضان ما يمكن تسميته "التأثير" و"الانغلاق"، فقصيدة النثر ذات شكل متكامل، محصور بخطوط صارمة، وبنسج محكم. إنّها عمل مغلق على ذاته، مثله مثل الفاكهة أو البيضة. قصيدة النثر ذات المبنى المحكم والإطار المحدود، لا تتحمل الاستفاضة في استعمال الأدوات الجمالية، أو المبالغة بالصور والتزويق. يجب أنْ تتحاشى كلّ تظاهر متعمد).

علينا الاعتراف بأنّ قصيدة النثر باتت تحتل حيّزًا كبيرًا في خارطة الشعر العربي وواقعه المعاصر، ويمكن القول إنها تمثل إحدى مراحل تحولات الشعر العربي مثلها مثل تجديديات أبي تمام وبشار بن برد ومثل الشعر الحر المرسل على لسان نازك الملائكة ومحيي الدين فارس والبياتي وغيرهم ممن سبقوا قصيدة النثر الحالية.

وبرغم أنّ البعض ما زال ينظر إليها على أنّها حفيد غير شرعي للقصيدة العربية التقليدية، ومحاولةً غير موفقة لهدم قدسيّة أشعار النابغة وطرفة وأصحاب المعلقات، وأنّ مصطلح "قصيدة النثر" نفسه يحمل في بواطنه تناقضًا واضحًا لأنه يجمع بين الأضداد؛ إلا أنّ المنادين بها آمنوا بتقديم مفهوم جديد للشعر و"الأدبية" خارج إطار الوزن والقافية القديمة، وبعيدا عن تعريف قدامة بن جعفر للشعر بأنه كلام موزون مقفى؛ والذي ما زال يدور حوله لغط كثير من قبل قدامى النقاد والمحدثين. ويراهنون في ذلك على قوة التخييل وبراعة التصوير الذي نادى به أمثال الفاربي، وعبد القاهر الجرجاني الذي أورد في كتابه دلائل الإعجاز أنّ حسان بن ثابت سأل ولده: ما الذي يبكيك؟ فأجاب الابن: (لسعني طائر كأنّه ملتف في بردى حبرة) فقال حسان: لقد قلت الشعر وربّ الكعبة، كما يورد أيضًا واقعة الأعرابي الذي سئل: لمَ تحب حبيبتك؟ فأجابه الأعرابي: لأنني أرى القمر على جدار بيتها أحلى منه على جدران الناس..

وكأنّ عبد القاهر الجرجاني هنا يلمح إلى أنّ الشعر يمكن أن يكون بلا أوزان، وإنّما الشاعرية أو الشعرية الحقة عبارة عن خيال خصب ورؤى عميقة تحمل في طيّاتها جماليات المفردة والتركيب والتصوير.