قصيدة النثر.. إيحاءات بلا نهاية (1-2)

 

محمد علي العوض

يُعد العراقي عبدالقادر الجنابي أكثر الشعراء المهمومين بالتنظير لقصيدة النثر العربية والعالمية؛ فعبر كتابه "ديوانٌ إلى الأبد: قصيدة النثر/ أنطولوجيا عالميّة"، يسبر الجنابي أغوار 420 قصيدة نثر لـ117 شاعراً عربيًّا وأجنبيًّا، مستنبطًا من خلالها صفات قصيدة النثر، وكيف نميِّز بين العربية منها وبين نظيرتها الأوروبية، وما هي الفروق الشائعة بين سمات "قصيدة النثر" و"الشعر الحر".

كما ضمَّن مؤلفه هذا البيانيْن الرئيسييْن لقصيدة النثر؛ واللذيْن كتبهما شارل بودلير وماكس جاكوب، كما سلّط الكتاب الضوء على عدد من شُعراء "قصيدة النثر" العربية؛ ومن بينهم: أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وعباس بيضون، وسركون بولص، وعبده وازن... وغيرهم.

ويستهلُّ الجنابي مؤلفه "ديوانٌ إلى الأبد: قصيدة النثر/ أنطولوجيا عالميّة" بتساؤل: ما هي قصيدة النثر؟.. ويشرع في الإجابة عبر تقديم نبذة تاريخية بأنّ مصطلح "قصيدة النثر" كان شائعًا منذ القرن الثامن عشر، وأنّه وفقًا للناقدة الفرنسية سوزان برنار فإنّ أول من استخدم المصطلح هو أليميرت عام 1777؛ وإن كانت مونيك باران نسبت المصطلح إلى شخص اسمه "غارا" في مقال له كتبه عام 1791 حول "خرائب فونلي..".

غير أنَّ الجنابي يرى أنَّ الشاعر الفرنسي الكبير بودلير أحدث تغييرًا كبيرا في مصطلح قصيدة النثر، فهو أول من أطلقها كجنس أدبي قائم بذاته، وأول من أخرج المصطلح من دائرة النثر الشعري إلى دائرة النص: الكتلة المؤطرة؛ حين اعترف بمرجعية وريادة الشاعر الرومانتيكي اليزيوس برتران في هذا النوع من الأدب. وذلك أنّ اليزيوس برتران طلب من العاملين على طبع كتابه "غاسبار الليل" أن يتركوا بين كل فقرة وأخرى فراغا مشابها للفراغ المستعمل عادة في تصميمات كتب الشعر. وهذا الأمر الذي أغبط بودلير، واعتبر أنّ حلمه بوجود "نثر شعري قد تحقق. بل تحمس للأمر لدرجة أن حوَّل قصيدته الموزونة "الدعوة إلى السفر" بعد مرور عامين من ظهورها إلى قصيدة نثرية، بعد أن أجرى فيها كثيرًا من التغييرات على مستوى المفردة الشعرية لتتماشى مع وقع قصيدة النثر.

ولم يكتمل المصطلح وتصبح "قصيدة النثر" جنساً أدبيا قائما بذاته إلا على يد ماكس جاكوب، الذي يرى النقاد أنّه خلص "قصيدة النثر" من الأعراض الرمزية والبلاغية، ووضعها في كتلة مؤطرة تركز على ثلاثة أعمدة؛ هي: الإيجاز، والتوتر، واللا غرضية". أما دخول مصطلح قصيدة النثر إلى المجال النقدي، فكان على يد سوزان برنار؛ وذلك في كتابها الشهير "قصيدة النثر.. من بودلير إلى أيامنا".

ومن أبرز النقاط التي ساقها الجنابي في كتابه "ديوان إلى الأبد..." أنَّ السبب وراء الفكرة التي تقول إنّ ظهور قصيدة النثر كان تصدياً لطغيان العروض، هو أن النثر خالٍ من كل القواعد العروضية؛ وبالتالي يمنح حرية أكبر للشاعر لكي يعبر عن انفعالاته الباطنة. والثانية؛ أنَّ تصاعد الرومانتيكية أعطى معنى جديداً لمفردة "الغنائية"، فبعد أنْ كانت تُطلق على الشعر الذي يُنظم بقصدِ التغنّي به في موضوعات أو الرواية أو السرد القصصي على أوتار القيثارة القديمة؛ صار لها معنى جديد اعتباراً من الربع الأول من القرن التاسع عشر، وهو: الوظيفة المشاعرية، كالحسية المُعبَّر عنها في الصور، في العاطفة الفردية وأحاسيس الفرد الداخلية، وباتت مصطلحاً يُطلق على كلّ عمل أدبي يعبّر عن الوجدان والعواطف، ومتحرر كليًّا من مُضمرات الموسيقى. ويقول إنَّ هذا التغيير الانقلابي والحداثي في الحسّية الشعرية هو الذي مهد السبيل أمام بزوغ قصيدة النثر.

كما يُنبِّه الجنابي إلى الخطأ الشائع حول اعتبار قصيدة النثر تطورًا للنثر الشعري الكلاسيكي الفرنسي، وتكملةً له. موضحا أنّ ما كان يطلق عليه قصيدة نثر في ذلك الزمان ما هي إلا أعمال روائية تتوسل محاسن البديع وتستعير إيقاعات النظم، لكي ترتقي إلى مصاف الأعمال الشعرية.. بينما قصيدة النثر هي قصيدة أداتها النثر وأدواته.

تختلفُ قصيدة النثر عن القصيدة الشفهية، وعنده أنَّ قصيدة النثر وُلِدت على الورقة أي كتابيًّا، وليست كالشعر على الشفاه. فهي لم ترتبط بالموسيقى كالشعر ولم يقترح كتُّابُها أنْ تُغنّى، ولا يمكن أنْ تُقرأ بصوت جهوري يحافظ على الوقفة الإيقاعية القائمة بين بيت وآخر/ سطر وآخر، كما في قصائد "النظم الحر"، لافتا هنا إلى أنّ مصطلح "شعر حر" يخلق سوء فهم مفاده أنّ الصراع بين الشعر والنثر، بينما في الحقيقة الصراع يدور بين النثر والنظم.

ويرى الجنابي أنَّ العلامة الأساسية لقصيدة النثر هي غياب التقطيع أو التشطير. ففي النظم الحر، في نهاية كل سطر/ بيتٍ، ثمّة فراغ يسمى "البياض" وهو لحظة تنفّس إيقاعي ضروري لجمالية القصيدة المشطّرة. واصفا إياه بأنّه يمنح القصيدة الحرّة هيئتها الشعرية، بينما قصيدة النثر تكتسب هيئتها وحضورها الشعري من بنية الجملة وبناء الفقرة… والبياض غير موجود (رغم وجود الفواصل والعلامات فيها لأسباب يقتضيها بناء الجملة)، إلّا في نهاية الفقرة التي تجعل القارئ مستمراً في القراءة حتّى النهاية. ولا ننسى أنّ أغلب قصائد النثر تتكوّن من فقرة واحدة، وبعضها من فقرتين.

ويُشبِّه الجنابي بناء قصيدة النثر بـ"قصر المتاهة" تلك الأسطورة اليونانية؛ فالشاعر في قصيدة النثر يمكن أنْ يبدأ من أيّ مدخل يشاء:

"كان يا ما كان"...

"عندما كنا"...

"ذات ليلة، عندما"...

أو الدخول إليها على نحو مفاجئ، كما في طريقة الشاعر عباس بيضون، حينما قال:

"الأربعة النائمون على الطاولة وسط الجبال لم يشعروا بخيال الطائر وهو يتضخم في الغرفة...".

ويشير هنا إلى أنّ المدخل نحو قصيدة النثر سهل جدًّا، ولكن الأصعب هو ختم/ نهاية القصيدة.

ويَسِم الجنابي قصيدة النثر باللاغرضية المجانية، والإيجاز. ويُشبِّه اللاغرضية بالخيط الذي أعطته أريان في أسطورة المتاهة إلى "ثيسيوس"، ليتتبّعه حتّى يخرج من المتاهة. ويُعرِّف الإيجاز بأنّه نتيجة تقاطب عنصرين أساسيين يعملان داخل قصيدة النثر، كلٌّ وفق حركته؛ قاعدته: الكثافة حدّ الاحتداد حيث السرد المتحرك منقطع السلك بين حائط وآخر، جملة وأخرى، يشدنا بسلسلة واحدة من البداية حتى النهاية دون أي تباطؤ.. واللاغرضية المجانية هي سلك الخيط الذي يقود من المدخل/ البداية إلى المخرج/ الخاتمة وعلينا أن نتتبّعها، وإلا سنضيع في متاهة نثر شعري له ألف رأس وألف ذيل، بينما غايتنا كتلة "لا رأس لها ولا ذيل...".

كما نبَّه الجنابي لضرورة عدم الخلط بين قصيدة النثر والشظيّة الفلسفية كالتي عند نيتشه، ويقول إنَّ لهذه الشظايا الفلسفية قصدا فلسفيا وغرضية واضحة، أو متسترة وراء موعظة ما. أمّا قصيدة النثر فهي "كتلة" يتأتى قِصَرُها من نظامها الداخلي، ومن كثافتها النوعية ومن حدتها المتزنة، وليس لها أية غرضية، بل خالية من أيّ تلميح إلى مرجع شخصي: كتلة قائمة بذاتها… أو كما كتب الشاعر الفرنسي أدموند جالو، عام 1942، "قطعة نثر موجزة على نحو كاف، منتظمة ومرصوصة مثل قطعة الكريستال يتلاعب فيها مائة انعكاس مختلف… إبداع حر لا ضرورة أخرى له سوى متعة المؤلف، خارج أي تصميم مُلفّق مسبقاً، في بناء شيء متقلّص، إيحاءاتُه بلا نهاية، على غرار الهايكو الياباني".

تنطوي "قصيدة النثر" -كما تقول سوزان برنار- "على قوّة فوضوية، هدامة تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، وفي الوقت ذاته، على قوّة منظِمة تهدف إلى بناء (كلٍّ) شعريٍّ؛ ومصطلح قصيدة النثر نفسه يُظهرُ هذه الثنائية". ففي قصيدة النثر توتر كامن يطيح بأية إمكانية توازن بين نقيضين بقدر ما يحتضنهما. وهذا يعني أنّ قصيدة النثر، كما تقول بربارة جونسن في دراستها الرائدة عن ثورة بودلير الثانية، تتسم بقوتين متعارضتين: حضور ضد غياب السمة و"إحالة إلى قانون الشعر" ضد "إحالة إلى قانون النثر".. قصيدة النثر لا هي نقيض ولا هي توليف، إنما هي المجال الذي اعتباراً منه تبطل وظيفة الاستقطابية؛ وبالتالي التناظر بين الحضور والغياب، بين الشعر والنثر".