الحدث في قصة سيدنا موسى (2)

 

 

تدفع حبكة الحدث وبراعة بنائه في القصة القارئ لتقليب صفحات القصة بشغف ولذة كي يكتشف مآلات نهاية الأحداث.

ويذكر النقاد مستويين لبنية الحدث أولهما بسيط محدود لا يشتمل على مُفاجآت، والثاني حدث معقد يحتاج إلى متلقٍ، وتنجم عنه تحولات في القصة وأحداث أخرى تغير طبيعة القصة وتعمل على تصاعد نسقها؛ فمثلا حدث القبطي الذي قضى على يد سيدنا موسى خطأً حينما ".. وكزه موسى فقضى عليه" حوّل حياة سيدنا موسى وعقّد مجريات القصة لدرجة دفعت كليم الله لمُغادرة مصر، وتوجهه تجاه مدينة "مدين" كمكان طارئ لم يكن ضمن خطط حياة سيدنا موسى أصلا؛ وإنما فرضته عليه الأحداث وتحولاتها بمشيئة الأقدار الإلهية.

أيضًا هناك حدث لقاء العبد الصالح بسيدنا موسى، والذي نتجت عنه العديد من المواقف التعليمية المُعقّدة التي احتاجت شرحًا وتوضيحا في آخر القصة من قِبَل العبد الصالح، والذي رمزت شخصيّته في الأحداث للعلم الخاص الذي يؤتيه الله لمن يشاء من عباده، في مقابل شخصية سيدنا موسى التي رمزت إلى العلم البشري الذي مهما تعاظم يظل قاصرا عن إدراك كامل الحقيقة؛ بسبب تفسيرنا للأحداث والأشياء وفق التفسير المنطقي الظاهر؛ بعكس العلم الخاص الذي له علل باطنية وفق حكمة إلهيّة تقصر عنها أفهام أصحاب الأحكام الظاهرية.

كما يمكن القول بأنّ شخصية العبد الصالح في الأحداث أدّت دور المعلم المتأني الصبور الذي يجد أعذارًا لعثرة تلميذه؛ بينما أدّت شخصية سيدنا موسى دور المتعلم المؤدَّب الذي يبادر بالاعتذار لحظة الخطأ، والوعد بعدم تكراره.

تتخلل حدث لقاء سيدنا موسى بالعبد الصالح جمل حواريّة كاشفة عن ماهيّة شخصيّات الحدث؛ إذ إنّ الحوار داخل الرواية أو القصة بجانب مساهمته في تطوير الأحداث وتصاعدها، فإنّه يحدد مواقف الشخصية داخل الحدث، والبواعث النفسية والعقلية والشعورية التي تحكمت فيها. فضلا عن أنّ الحوار له قدرة على الإيهام بالواقعية التي تحقق التماهي بين المرسل والمُتلقي؛ فالأخير يملك خاصية التعاطف أو التضاد مع الشخصية من خلال الحوار داخل النص.

يبدأ حدث لقاء العبد الصالح في القرآن الكريم بحدث وحوار تمهيدي بين سيدنا موسى وفتاه "يوشع" يؤكد فيه كليم الله عزمه على بلوغ مجمع البحرين وإيجاد العبد الصالح. وتوضح الآيات نسيان حوتهما عند الصخرة التي نالا فيها قسطا من الراحة، وكيف أنّهما قفلا راجعين إلى الصخرة التي التقيا عندها بالعبد الصالح. تتكشف الأحداث بعد ذلك عن حوارية أخرى بين العبد الصالح وسيدنا موسى يطلب فيها من الخضر أن يتّبعه حتى ينهل من علمه الغزير، فيحذّره العبد الصالح من مشقة الأمر بعبارة "لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا"، وكأنّ العبد الصالح هنا ومن واقع علم "الباطن" يتنبأ بنتيجة المواقف التعليمية؛ لكنّ سيدنا موسى يُظهر جانب المتعلم المثابر بقوله: "سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا".. يستجيب العبد الصالح بعدها لطلب سيدنا موسى ولكنّه يضع شرطا أمامه مفاده: "إِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا".. وبالفعل يوافق موسى على الشرط، وإن كانت الآيات لم تذكر موافقة موسى في شكل آية أو جملة مقروءة إلا أنّه تم إضمارها سردا، وآية "فانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ..." الواردة بعد آية الشرط، دليل على موافقة موسى والشُّروع في الصُحبة.

وبينما كان موسى والعبد الصالح يسيران على ساحل البحر؛ صادفتهما سفينة لمساكين يعملون على متنها، فعمد العبد الصالح إلى ثقبها ثقباً يمكن إصلاحه.. فينبري موسى له سائلا ومستنكرًا: "أخرقتها لتغرق أهلها؟" فيجيبه الخضر مؤكدا على مشقة الأمر وتحذيره السابق: "ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرا" فيعتذر موسى قائلا: "لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أَمري عسرا"..

تتابع الأحداث وينطلق موسى والعبد الصالح إلى مكان آخر فيصادفان غلمانًا يلعبون وبينهم غلام جميل الوجه مليح الصورة، وفجأة فإذا بالعبد الصالح يمسك بخناق الغلام فيقتله.. عندها تثور حميّة موسى لاقتراف رفيقه فعلا شنيعا مُحرمًا في التوراة؛ فيتوجه للعبد الصالح مستنكرًا: "أَقَتَلْت نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا". فيجيبه العبد الصالح مُذكرًا مرة أخرى: "أَلَمْ أَقُل لكَ إِنكَ لَن تستَطِيعَ مَعِي صَبرًا".. فيتذكّر سيدنا موسى الشرط والتعهد السابق فيبادر معتذرا: "إِن سَأَلتكَ عَن شيءٍ بعدهَا فَلا تصَاحِبنِي قد بَلغتَ مِن لدُنّي عُذرًا"..

يواصل سيدنا موسى والعبد الصالح سيرهما.. يشعران بالمسغبة والنَّصب.. يدلفان إلى قرية ليسكتا غائلة الجوع، ويطلبان من أهلها إطعامهما.. يرفض أهل القرية أن يضيّفوهما، وهما عائدان مُنهكان يجد العبد الصالح جدارًا يُوشك أن ينهار، فيقوم إليه ويصلح بنيانه.. يستنكر سيدنا موسى فعل العبد الصالح ويخاطبه لائمًا: "لو شئت لاتخذت عليه أجرا"، والمعنى أنّ أهل القرية لئام وكان ينبغي عليك ألا تبني هذا الجدار مجانًا فأهل القرية لا يستحقون الحسنة، فيرد عليه العبد الصالح "هذا فراق بيني وبينك" جزاء عدم امتثاله لشرط "فَإِنِ اتبعتَنِي فَلا تَسأَلنِي عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا".

يحدث الفراق بين موسى ومعلمه، ويبدأ الأخير في التعليل وكشف الأسرار عبر حوارية تقابل بين التفسير المنطقي الظاهر للأحداث؛ ودالته موسى، وبين العلم الخاص الذي له علل باطنية المصادر؛ ودالته العبد الصالح. فيقول: إنّ السفينة كانت مصدر رزق وحيد لمساكين يعملون في البحر، وكان في المنطقة ملك ظالم يسلب كل سفينة صالحة ويأخذها من أهلها عنوة، وقد أردت أن أحدث بها عيبا حتى إذا رآها الملك ظنّ أنّها غير صالحة ولا يمكن الاستفادة منها؛ فيتركها لأصحابها.

وأمّا الغلام فقد ظهرت عليه علامات الفساد والطغيان منذ الصغر، وكان أبواه مؤمنين صالحين فخشيت أن يطغى فساده على صلاحهما ويجرهما إلى الكفر والمعصية، فقتلته ليربح هذان الأبوان المؤمنان ويرزقهما الله بمولود خير منه.

وبخصوص الجدار الذي أقمته فقد كان لغلامين يتيمين في المدينة لا حول لهما ولا قوة، وكان تحته كنز تركه لهما أبوهما، فأردت أن أقيمه ليحفظ كنزهما حتى يكبرا ويشتد عودهما فيستخرجاه بأنفسهما بدلاً من أن يسقط الآن فيطمع فيه اللصوص والطامعون.