"قُل إنَّ الأمر كُله لله"

 

سلطان بن ناصر القاسمي

يسعى الإنسان دائمًا لتحقيق أهدافه في حياته، ويجب عليه أن يدرك بوضوح أن تحقيق تلك الأهداف يتطلب التوفيق من الله سبحانه وتعالى، إضافة إلى الإصرار والإرادة القوية من جانبه، وحديثنا في هذا الشأن تحت جانبين أساسيين: الجانب الداخلي المتعلق بالروحانيات، والذي يتطلب التأمل والتفكير.

لنبدأ أولاً بالسعي الداخلي المتجسد في الروحانيات، مثل العبادات كالصيام والصلاة والزكاة والصدقات، وكذلك الاستغفار وغيرها. تلك الأعمال ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدعاء إلى الخالق، مع توجيه النية والطلب للتواصل معه وطلب الاستجابة منه، مصداقاً لقوله تعالى "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" (غافر: 60)، وقال "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة: 186).

وهنا لا يُشترط أن تحدث الاستجابة على الفور، فقد تُؤَجَّل إجابة الدعاء بمشيئة الله تعالى لأسباب تخفى علينا، وعلينا أن نثق بأن كل ما يُؤَجَّل من طلباتنا يأتي بخير أو يبعد عنَّا شرًا مُحتمًا. فقد يكون الله يُريد تبديل الشيء المُؤَجَّل بشيء أفضل بالنسبة لنا، حتى لو استمر التأخير لفترة طويلة.

إنَّ التركيز في السعي الداخلي يبدأ بأولوية إصلاح الذات وتحسينها، قبل الانغماس في تحقيق الأهداف أو تصحيح الآخرين، حيث ينبغي للفرد أن يتساءل لماذا يجب أن يبدأ بإصلاح الذات أولًا؟ الجواب يكمن في أن هذا العمل ينمي الثقة المطلقة بأن كل عطاء يأتي من محبة وثقة، دون أن يكون مدفوعًا بالحاجة أو الفقر، كما  يجب أن يرتبط هذا الإدراك بالثقة بالله، الذي هو المعطي والرازق. فعندما يتعرض الشخص لعدم التقدير أو عدم الشكر على عطائه، يمكنه أن يجد القوة واليقين في رضا الله وحده. لذا، من الضروري بشدة أن يهتم الفرد بنفسه أولًا، ولتحقيق ذلك، يجب أن يدرك حقيقته وأهدافه، ويبتعد عن تلطيف الآخرين على حساب نفسه، ويتخلى عن توقعات ردود أفعالهم.

ومن الأهمية بمكان أن يكون للإنسان وعي بما يريده في الحياة، ومن ثم يمكنه تقديم الجهد اللازم واتخاذ الخطوات الضرورية لتحقيقه. ولكي يكون لديك القدرة على تحقيق ما ترغب فيه، يجب أن تبذل الجهد في تغذية نفسك بالمعرفة والتدريب المناسبين، وتربط هذا الاجتهاد بالعبادة والروحانيات بنية صادقة وعلاقة قوية مع الخالق، مؤمنًا بقدرته. على سبيل المثال، إذا كنت ترغب في ممارسة نشاط رياضي معين، فعليك اختيار الرياضة التي تستمتع بها بدلًا من الالتزام بتوقعات الآخرين، فالتركيز على هذا الجانب يشكل نوعًا من النمو الشخصي الداخلي. ويمكن أيضًا أن تواجه تحديات مثل رغبتك في الارتباط بشريكة حياة معينة وتجد صعوبة في ذلك، ولكن يجب أن تتذكر أن ما يحدث لديك قد يكون خيرًا لك في المستقبل، فقد يحمل الله لك شيئًا أفضل وأكثر تناسبًا لمستقبلك، وهذا بيان في قوله تعالى: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة: 216).

وعندما تدرك أولًا أن الحاجات التي يُسهِّلها البشر لك هي بيد الله، وأن مرضك الذي يعجز الأطباء عن علاجه فشفاؤه بيد القادر جل جلاله، وأن كل الأمور التي أثَّرت فيك وألمتك، مهما كانت عظيمة، هي بيد الله وحده، فإنك لا تستحق قلقًا، بل على العكس، يجب عليك الاعتماد على الله، فالأمور كلها تعود إليه.

والخير الحقيقي يكمن في الثقة بالله تعالى، والاستسلام لقضائه، والرضا بتدبيره. فإذا عشت حياة ممتلئة بالامتنان والشكر لله، فهذا هو السر الحقيقي للسعادة. ومن جهة أخرى، هناك أشخاص يؤدون العبادات دون أن يثقوا أن ما يريدونه سيتحقق إلا بوساطة البشر، فإذا لم يتلقوا المساعدة المأمولة، يثير ذلك غضبهم ويؤدي إلى حقد وضغينة. ولكنهم لا يدركون أن أي مساعدة تأتي من الإنسان هي بالأساس من الله، فلذلك يجب أن تكون الثقة بالله أقوى، ويجب علينا أن نسعى بروحانية أكبر وأن نراجع أنفسنا لنتأكد من أننا نثق بالله بصدق. لذا ينبغي علينا الاستغفار وزيادة الصدقات وتنقية النفوس، لنبقى على اتصال دائم مع الخالق السميع البصير.

وبعد أن تعرفنا على السعي الداخلي ينتقل اهتمامنا الآن إلى السعي الخارجي، الذي يتجلى في الجهود التي يبذلها الإنسان من خلال التفاعل مع الآخرين والمؤسسات البشرية، ويُعرف هذا السعي بالأسلوب الحركي، حيث يسعى الفرد إلى تحقيق أهدافه من خلال التفاعل مع العوامل البشرية المحيطة به، سواء كان ذلك من خلال التواصل مع أفراد آخرين، أو باللجوء إلى جهات حكومية أو خاصة، أو حتى من خلال المواقع الإلكترونية التي تعتمد على تفاعل البشر. ويترتب على هذا النهج مجموعة من الأمور المرتبطة بتحقيق الأهداف، فعلى سبيل المثال، فإن التقدم للحصول على وظيفة يتطلب غالبًا جوانب دراسية أو تدريبية لكسب الخبرة والتأهيل اللازم، كما يتضمن ذلك في بعض الأحيان اللجوء إلى الآخرين للمساعدة في البحث عن الفرص المناسبة.

ومن خلال هذه الجهود، يشكل الفرد أجزاء رئيسية في سعيه الحركي الخارجي، مما يفتح أمامه أبواب الفرص وتحقيق الأهداف المنشودة. وبالتالي، يتماشى السعي الداخلي والخارجي للفرد معًا، مما يمهد الطريق أمام تحقيق الرزق وتحقيق الأهداف. وتؤكد الآيات القرآنية على أهمية عمل الإنسان وجهوده في هذه الحياة الدنيا، وأنه لا ينفع الإنسان إلا عمله وتحصيله فحسب، ومن ذلك قوله تعالى: "وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى" (النجم: 39) فالآية صريحة في أن الإنسان لا ينفعه إلا عمله وسعيه، ويفهم منها أنه لا ينتفع أحد بعمل أحد، وبالمقابل، فقد جاءت آيات أخرى، تدل على أن الإنسان ربما انتفع بعمل غيره؛ من ذلك قوله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ" (الطور: 21).

إذن.. كلا الأسلوبين الداخلي والخارجي يرتبط بالرزق وهو من عند الله سبحانه وتعالى، فهو الرزاق وهو المعطي وكل ذلك لابد أن يرتبط بشكر الله تعالى على نعمه، وليعلم الإنسان أن الأرزاق مقسمه من الله وهي مختلفة وغير متساوية بين البشر، هكذا تقتضي حكمة الله عز وجل .. ولله في خلقه شؤون، ولو تساوت الناس في كل أمورها لأختل قانون التوازن الفطريّ بين البشر الذي أوجده الله للكون، قال تعالى: "أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (الزخرف: 32).

تعليق عبر الفيس بوك