الحكمة والاستبداد في ميزان العالم الحديث

 

حميد بن مسلم السعيدي

الكتاب الذي يظل ثابتاً على طاولتي دون أن ينتقل لمكان آخر كتاب كلمات وخُطب جلالة السلطان قابوس المُعظم، وكلما كتبت مقالاً كان معيناً لي في فهم الواقع المُعاش، ذلك الواقع الذي نتعايش معه وكأنَّ جلالته كان عارفاً وعالماً بما سيحدث بالمستقبل، هذا الأمر يعود بي للماضي قليلاً حيث قرأت تلك الخُطب التي ألقاها جلالته على شعبه على مدى ثمانية وأربعين عامًا، فكانت الحكمة التي لم ينظر إليها الآخرون، كانت الرؤية للمُستقبل بعد أن أصبحت حقيقة في الواقع، فما تضمنته تلك الخُطب يدعو للتأمل فيها اليوم في ظل ما نعايشه من عالم مضطرب لا يسوده إلا الظلم والاستبداد، والقارئ لها يجد مدى تضمنها للعديد من المضامين والأبعاد المتنوعة على الصعيد المحلي والدولي.

فدولياً تضمنت الدعوة إلى تحقيق السلام والأمن والاستقرار العالمي وبناء علاقات الصداقة والتسامح مع شعوب العالم أجمع، وتقوية الروابط والمواثيق والعهود مع دول العالم وعدم التَّدخل في شؤونهم والعمل على تقديم الدعم والمساعدة لهم في تحقيق السلام الدولي، ومحلياً تضمنت فكراً حديثاً في بناء الإنسان، وما ينبغي أن يتسم به من قيم ومبادئ وسلوك، كل هذه المضامين لم تخلو من أقوال جلالته في المناسبات الوطنية مما أنعكس إيجابا على السياسة الخارجية العمانية وعلى الشخصية العمانية الاعتبارية التي كسبت ثقة واحترام الشعوب، وهذه أسمى شهادة نُفاخر بها بين الأمم.

تلك كانت توجهات جلالته في بناء الإنسان العماني الذي أصبح سفيرًا للسلام والتسامح على مستوى العالم، وأصبحت عُمان مكاناً للباحثين عن السلام العالمي، "إن سياستنا الخارجية معلومة للجميع فنحن دائمًا إلى جانب الحق والعدالة والصداقة والسلام وندعو إلى التعايش السلمي بين الأمم وإلى التفاهم بين الحضارات"، من خطاب جلالته عام 2002م، لذا فعُمان تتولى دورًا عالمياً في مُعالجة القضايا السياسية الخارجية من خلال نظرتها المحايدة، واتخاذها للمواقف السياسية بحكمة دون التأثر بطرف آخر، ساعية إلى تحقيق التوافق القائم على المصالحة بين الدول، بالإضافة إلى مساهمتها في إيقاف حدوث أي صراعات، في ضوء ما يشهده العالم من صراعات مُتعددة ما بين الدولية والصراعات الداخلية للدول المضطربة، انطلاقًا من إيمانها بأنَّ الصراعات والحروب لا منتصر فيها فالجميع يخسر كل شيء، فأصبح العالم يبحث عن مخرج من ذلك النفق المظلم الذي يخيم على السلام العالمي.

هذا النفق الذي يُظهر حقيقة الوجه المظلم للإنسان في عالم أسود لم تُعد فيه للعهود والمواثيق أهمية ولا كرامة، حيث تسود الصراعات من أجل المصالح السياسية والاقتصادية التي أصبحت تتحكم بالعالم مما أظهر الوجه السيئ للإنسان فهل هي عامل وراثي كان منذ عهد قابيل وهابيل أم أنَّه مستقبل لا وجود فيه إلا في السياسة العمياء؟

هذا الأمر دفعني للبحث عن إجابات للكثير من الأسئلة فلم أجد ما يرضي طموحي إلا أن العودة إلى كتاب الله تعالى تقودني إلى حقيقة ما.. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) البقرة/30، وهذه الآية الكريمة تتحدث عن أسوأ صفات الإنسان القتل وسفك الدماء، وبالرغم من تواجد هذه الصفة إلا أنها لا تظهر إلا لدى شخوص معينة يعميها الظلم والاستبداد عن الحقيقة، وتسعى إلى تحقيق مآربها بأيِّ ثمن كان ولو على حساب حياة إنسان رغب في حياة بسيطة يعيش فيها يومه بأبسط الأمور، لكنه لم ينعم بحياته، ولا بموته.

لذا ستبقى الكثير من الأسئلة التي نطرحها دون إجابة، وربما تظل مغيبة عن عقولنا في الوقت الحاضر، فالإنسان لم تعُد له قيمة لديهم، فسعره لا يتجاوز قيمة رصاصة يُقتل بها، أو سعر قذيفة لن تترك له الوقت ليصرخ، تلك هي الصورة الحقيقية لإنسان العصر الحديث الذي يسعى نحو تحقيق الانتصار على الإنسان ذاته، في مواقف ومعارك لا شأن له بها إلا تحقيق مصالحه. فإلى متى يستمر مسلسل القتل والدمار؟

مليئة تلك الأخبار التي تنقل إلينا عبر وسائط الإعلام المختلفة نشعر خلالها بألم الظلم والاستبداد، نشعر بصراخ الموتى وألمهم، نتألم لموت الأطفال وننظر إلى بقايا أجساد طويت تحت الأنقاض وتحت الركام وتحت موت الإنسانية وأخلاقها، نشاهد تلك الجثث تنتشل من تحت الأنقاض نتيجة سقوط قذيفة أودت بحياتهم، أو ننظر إلى جثة أم قتلت وهي تحاول أن تضم أطفالها وتنقذهم من الموت تحت الركام، أو ذلك الكهل الذي قتل وهو ذاهب لأداء صلاة الفجر، أو ذلك الشاب الذي يطمح بالمستقبل اغتالته رصاصة بالطريق، مواقف كثيرة يفعلها الإنسان بوجهه الأسود، دون أن يشعر بألم الضمير ولا تطرف له عين لموت هؤلاء، ذلك كله من أجل الطغاة الباحثين عن المجد السياسي والاقتصادي والعسكري، يعيشون مرحلة الفرعنة والغلو لا ينظرون إلا لتحقيق مآربهم ولا يهمهم الموت ولا الدماء ولا الإنسان الذي لا قيمة له بين أجندة أعمالهم، ثم نأتي لنتحدث عن أننا رعاة للسلام وتحقيق الاستقرار ومحاربة الإرهاب والتطرف، فأي عالم نعيشه؟

كنت أعتقد أنَّ هذا العالم يمكن أن يظهر في حياة جديدة، وعالم ينعم فيه الإنسان بكرامته وأمنه واستقراره يشعر بقيمته يتعايش مع عالمه كل صباح ومساء ينجز أعماله يعيش بواقعه الاجتماعي يتمتع بحقوقه ويقوم بواجباته ويحافظ على علاقته بخالقه، يسعى نحو تكوين وبناء وطنه، يُسهم في صناعة حضارته، ولكن كل ذلك يُصبح من المستحيلات في مناطق الصراع، بين الإنسان والاستبداد الذي يحاول أن يستعبده ويقضي على حياته في مشاهد كثيرة في أماكن مختلفة، يبحث عن الأمل للوصول إلى نهاية النفق المظلم، ويظل العقل خاضعاً للكثير من التساؤلات التي لا إجابة لها.

Hm.alsaidi2@gmail.com