تنقية التراث الإسلامي.. ضرورة حتمية

زاهر المحروقي

دارتْ نقاشاتٌ كثيرة في السنوات الماضية عن ضرورة تنقية تراثنا الديني من الأحاديث المدسوسة والمكذوبة على الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وهي الأحاديث التي أورثت لأجيال المسلمين أمراضًا مزمنة ومستعصية جيلا بعد جيل؛ وتسبب بعضُها في اقتتال المسلمين فيما بينهم، رغم تناقض هذه "الأحاديث" مع العقل، ومع آيات القرآن الكريم تناقضًا صريحًا. فكان السؤال المطروح هو: لماذا لا تتم تنقية وتنقيح تلك الكتب، خاصة وأنّ كثيرًا من علماء المسلمين أجمعوا على وجود الغث والسمين فيها؟ ثم لماذا على أجيال الأمة الإسلامية أن تعيش في الماضي تتقاتل بسببه وتترك الحاضر والمستقبل؟!

هُناك من يخشى الدخول في موضوع حساس كهذا حتى لا يُتَّهم بأنه يُنكر السنة النبوية الشريفة؛ وهي التهمة التي وُجهت لكثيرين منهم الراحل مصطفى محمود، وآخرين غيره ممن رفضوا الأحاديث التي تتعارض مع القرآن أو تتصادم مع العقل. وقد شهدت الساحة المصرية -مثلا- سجالاً ومجادلات صاخبة وعنيفة حول صحيح البخاري، وكان أحد طرفَيْ هذا السجال المستشار أحمد عبده ماهر الذي رفع لواء مراجعة وتنقية كتاب البخاري، مؤكداً وجود أكثر من مائة حديث شاذ ومدسوس ومنسوب كَذِبًا وزورًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ أما الطرف الآخر فكان عدداً من مشايخ وعلماء الأزهر الذين تصدوا لعبده ماهر ودافعوا بشدة عن كتاب البخاري. وقد احتدم النقاش بين عبده ماهر وهؤلاء المشايخ والعلماء على شاشات الفضائيات، وحدثت ملاسنات كثيرة بين الطرفين، ووصل الأمر بأن توعد كل طرف بتصعيد الأمر إلى القضاء وساحات المحاكم، إلا أن أحمد ماهر مازال مواصلاً هجومه على صحيح البخاري حتى اللحظة. ما يقوله أحمد ماهر يقوله كثيرون الآن في بقاع العالم الإسلامي المختلفة، وقد نشأت تسمياتٌ كثيرةٌ لمعارضي بعض الأحاديث الواردة في الصحاح، مثل "العقلانيين" و"القرآنيين" وغيرها من المسميات؛ لكن لم يكن ماهر وحده في هذا المضمار، ولم يكن كل علماء الأزهر معارضين له أو غاضبين عليه، فهذا مثلاً الدكتور طه جابر العلواني، وهو أحد علماء الأزهر ورئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي سابقًا، يقول: "وُضعت بعض الأحاديث كذبًا على رسول الله، ورويت بعض الأحاديث بطرق ضعيفة، وأصابت بعضُ الأحاديث التي تنقل الأخبار والسنن عن رسول الله آفات من شذوذ وعلل قادحة، جاءت من روايات رواة بعضهم دلس، وبعضهم عنعن، وبعضهم لم يفقه الحديث الذى تلقاه ونقله، إلى غير ذلك من آفات. وبعض تلك الأحاديث المفبركة أو الضعيفة جدًّا، حملت عللا وأمراضًا، انتقلت إلى عقول أبناء الأمة فأفسدتها. بعضها جاء على معارضة القرآن المجيد ومناقضته، وبعضها جاء مناقضًا لسنن صادقة وثابتة عن رسول الله، وبعضها مناقض للعقل ولكليات القرآن ومقاصد الإسلام؛ فهناك أحاديث جاءت في امتداح شعوب وذم شعوب أخرى، ومدح قبائل وذم قبائل، ومدح جهات وذم جهات أخرى، وكلها تأتي على منافاة ما هو معلوم بالضرورة من كتاب ربنا، وما صح عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- من أن الأكرم والأفضل من البشر هو التقي، وليس المنتمي إلى هذا القبيل أو ذاك".

إذن؛ لا مناص من الاعتراف بأنَّ كتب التراث عند المسلمين لعبت دورًا أساسيًّا في نشر الكره والبغضاء لدى المذاهب الإسلامية، ونشأ بسببها غلاةٌ ومتعصبون من كل المذاهب دون استثناء، وهم الذين أذكوا نار الكراهية بين المسلمين، وجاءت بعض الفضائيات التي تسمى دينية، لتزيد الحطب اشتعالا، بما تبثه من بذور الفرقة والتناحر، وكأننا إذا اختلفنا في هذا الزمن على أحقية الخلافة كانت لمن؟ سنعيد عجلة التاريخ إلى الوراء ونسلم الخلافة لمن يستحقها! والأسوأ من هذا أن يشاهد العالم شيوخًا يتلفظون بألفاظ نابية في حق أمهات المؤمنين والصحابة، معتمدين على ما لديهم من كتب، كما يشاهد العالم شيوخًا آخرين يسبُّون جمعًا كبيرًا من المسلمين بألفاظ لا تليق، فقط لأن هذا السب موجود في كتب التراث.

ومن جميل ما قرأت في هذا الموضوع ما خطه البروفيسور جعفر عبدالمهدي صاحب، في موقع "النور" الإلكتروني؛ إذ وجه رسالة إلى أهل المذهب الذي ينتمي إليه وهو المذهب الشيعي، فهو يقول عن بعض من يسُب أمهات المؤمنين والصحابة: "علينا أن نشخص السلوكيات الشيعية أو المحسوبة على الشيعة، ونلاحق ونفضح مرتكبيها بشتى الوسائل حتى لا يضاف الشهد بالسم، وتعطى الفرصة للأفكار التكفيرية لتقوم بأعمالها الإجرامية. وإن البحث في إشكالية معينة يتطلب معرفة أسباب الظاهرة وليس وصف الظاهرة؛ والنقد الذاتي الجمعي ضرورة تجب ممارستها عندما نرغب في التقييم أو محاكمة الظروف الحالية؛ فعندما نقول إن الفكر التكفيري هو فكرٌ إجرامي علينا في الوقت نفسه أن نشخص الأسباب التي دعت الوهابيين في إرسال من ينفذ عملياتهم الانتحارية في العراق".

لقد تجرأ البروفيسور جعفر عبد المهدي صاحب، فنَقَدَ المذهب الذي ينتمي إليه، ونأمل أن تقوم الأطراف الأخرى بممارسة النقد ذاته وتعمل على تنقية الموروثات. وبالتأكيد فإن خطوات كهذه سوف تحد من ظاهرة التباغض والعنف والإرهاب المتبادل بين أبناء الدين الواحد، وهذا أفضل من مقالات المجاملة الرنانة، في وقت تمتلأ القلوب بالحقد والضغينة ضد بعضنا البعض. وربما كان ترجمةً لدعوة البروفيسور جعفر للنقد الذاتي هو ما تم الإعلان عنه مُؤخرًا، من أنَّ إيران بدأت بحذف "الروايات الضعيفة والزائفة" من كتاب "بحار الأنوار" -أحد مصادر الفقه الشيعي- الذي يحتوي على السب واللعن للخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين زوجات النبي عليه السلام، وأحاديث تفيد بأنَّ أهل السُّنة والجماعة مرتدون. وخطوةٌ كهذه هي خطوة جريئة تُحسب لإيران في ظرف حساس جدًّا، ستشجع حتمًا على تنقية كتب التراث الإسلامي من الروايات الموضوعة، وهو جهدٌ بدأ منذ فترة من الزمن، حيث سبق للراحل جمال البنا أن فعله، بعدما جرد صحيحَيْ البخاري ومسلم من 653 حديثًا، مشككًا في صحتها، ومعتبرًا أنها غير مُلزمة لأحد؛ متجاوزًا بذلك عقبة الخوف من "التعرض لتنقية الصحيحَيْن اللذيْن يُعدان أقدس كتابين عند المسلمين بعد القرآن الكريم"، مثلما صرح بذلك البنا، الذي أصدر تنقيته للبخاري ومسلم في 342 صفحة من القطع الكبير بعنوان "تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تُلزم"، ووصفها بأنها "كانت أملا عزيزًا عبر عنه الكثيرون، ولكن لم يقم أحد بهذه المهمة". وعزا أسباب الإحجام عن القيام بأي تنقية لصحيحَيْ البخاري ومسلم إلى الخوف.

وإذا كُنَّا نتحدث عن تنقية هذين الصحيحَيْن وكتاب "بحار الأنوار"، إلا أنَّ الجهد يجب أن لا يقف عندهما فقط؛ بل يجب أن يشمل كل كتب الحديث التي تسمى "الصحاح"، وكذلك كتب التفسير والتاريخ، وتنقيتها من كل ما نُسب زوراً وبهتاناً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فلا معنى لمؤتمرات التقريب بين المذاهب الإسلامية إذا كانت تلك المؤتمرات ستكون إعلامية فقط دون تحقيق أي نتيجة منها، وهذا ما يبدو حتى الآن. وإذا كانت الأمة الإسلامية تريد أن تلغي خلافات الماضي وتعيش الحاضر والمستقبل، فيحتاج الأمر إلى تسمية الأشياء بأسمائها والابتعاد عن المجاملات. وتنقيةُ كتب التراث أهم نقطة في هذا السياق، وستظهر نتائجها إنْ عاجلاً أو آجلا، ربما ليس في الجيل الحالي ولكن المؤكد في الأجيال المقبلة.