حين يعلو الأسفلت على التراث وتحجب الخرسانة الذاكرة

 

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

تنفسنا الصعداء أولاً ببدء تنفيذ مشروع ازدواجية شارع السلطان قابوس في صلالة، بعد طول سنين رغم أهميته الأسمية أولاً لكل عُماني وأهميته الاجتماعية والاقتصادية ثانيًا، ولكونه أقدم وأطول شارع أسفلتي في ظفار شُيد في بداية سبعينيات القرن المنصرم، والذي يربط قصر الحصن العامر بدوار الدهاريز وقصر المعمورة العامر مرورًا بالحافة والبليد أهم منطقتين تراثيتين بالمحافظة واللذين أصبحا إرثا حضاريا وجب صيانتهما والمحافظة عليهما للأجيال.

بعد أن كشفت شركة الحافة للتطوير والاستثمار مشكورة (الشركة الأهلية) المناط بها تطوير منطقة الحافة التراثية اللثام مؤخرًا عن ما تم ترميمه وهدت الستار الذي طوقت به الحافة التراثية خلال فترة الترميم والذي وإن طال أمده إلا أن العبرة بالنهايات، فكشفت عن منظر جميل مريح أعاد الذاكرة لبيوت الحافة بالشكل التراثي التي كانت عليه، وكما نعرفها نحن الرعيل الأول من أبناء المحافظة وأبناءها الذين عاشوها وعايشوها وبالذات على الجهة الشمالية للحافة بمحاذاة ازدواجية شارع السلطان قابوس الجديد.

نفاجأ مؤخرا ببوادر ارتفاع جدار أسمنتي من نوع آخر على الشارع يحجب رؤية هذه البيوت التراثية التي بذلت الشركة جهدًا جهيدًا ووقتًا ومالًا لترميمها لإعادة إحيائها لتسُر الناظرين وتعيد عبق التاريخ.

ورفع منسوب هذا الطريق وبالتالي إقامة هذا الجدار الأسمنتي على طول الواجهة الشمالية للحافة التراثية لحماية هذا الرفع أمام البيوت التراثية المُرمَّمة يترك أثرًا عُمرانيًا غير محمود؛ إذ حجب جزءًا مُهمًا من الواجهات التاريخية التي تمثل ذاكرة المكان وروحه البصرية؛ فالعمارة التراثية ليست مجرد جدران وأحجار؛ بل هي نص بصري يروي حكاية الماضي عبر الزمن، وأي تدخل غير مدروس يطمس هذا النص النابض بعبق الماضي يعد إخلالًا بالانسجام العمراني وتشويهًا للرؤية التي صاغها من عمروها في عصرهم بعناية. كما إنه يقطع خيوط التواصل بين الأجيال وبين الإنسان ومشهد المكان في عصره الذي شيد فيه، وسيحول بالتالي الواجهة التراثية من لوحة مفتوحة على جمال زمنها وعصرها إلى جدار أسمنتي أصم خلف أسفلت مرتفع. إنه ببساطة فرض قسري للحاضر على الماضي دون حوار أو تناغم بينهما، ويختزل قيمة هذه البيوت التراثية في ظل الطريق بدل أن يرفعها إلى مقامها الذي تستحقه.

الحلول لا تزال ممكنة إذا ما توفرت الإرادة والمرونة، ولا تخفى على أي مهندس حصيف؛ سواء عبر إعادة تقييم منسوب الطريق بما يضمن كشف الواجهات التراثية وإبرازها، أو من خلال تصميم حلول هندسية بديلة، كما إن هناك إشكالًا آخر ليس أقل أهمية سيسببه هذا الجدار؛ حيث سيجعل جامع الشيخ علي ومسجد صاحب الصدرة التاريخيين بدون تواصل مع الشارع العام، كأننا نقطع الطريق بين الناس وبيوت الله ونحجب الروح عن مكانها الطبيعي في قلب المجتمع.

إن فتح منافذ من الشارع العام إلى المنطقة التراثية ليس مجرد حل هندسي؛ بل واجب عمراني وأخلاقي يضمن استمرار العلاقة بين الإنسان والمكان، عليه نتوجه بنداء صريح إلى صاحب السمو السيد محافظ ظفار وسعادة الدكتور رئيس بلدية ظفار للتدخل المباشر، حمايةً للذاكرة المجتمعية، وصونًا لحق المجتمع في أن يرى تراثه حيًّا وفاعلًا لا يُحجب خلف كتل أسمنتية وأسفلتية نتيجة قرارات فنية مُتعجِّلة، وأن يبقى التراث حاضرًا في وجدان الناس، ويبقى التراث منارة بصرية دائمة.

الأكثر قراءة

z