حيدر بن عبدالرضا اللواتي
شهدت الساحة العُمانيةُ خلال السنوات الخمسة الماضية العديد من الإصلاحات التشريعية والإدارية في المجالات وخاصة في مجال نظام القضاء التجاري، حيث كان أبرزها تأسيس محكمة الاستثمار والتجارة المتخصصة. واليوم فإنَّ النظام القضائي التجاري في عُمان يشمل مجموعة من القوانين التي تنظر في المنازعات التجارية والاستثمارية، وترتكز على مبادئ القانون المدني والتجاري الصادرة عبر المراسيم السّلطانية ذات العلاقة.
وخلال عام 2025 صدر المرسوم السلطاني رقم 35/2025 بإنشاء محكمة الاستثمار والتجارة لتكون هذه الجهة مخصصة للفصل في القضايا التجارية والاستثمارية بدلًا من المحاكم العامة، حيث تعمل هذه المحكمة تحت إشراف المجلس الأعلى للقضاء، وتختص بالنظر في الدعاوى التي يكون طرفها تاجرًا أو ذات علاقة بأعماله التجارية، وكذلك النظر في المنازعات الناشئة عن عقود الاستثمار والشركات والأصول المالية والمصرفية وغيرها.
وتعمل محكمة الاستثمار والتجارة على تحقيق عدة أهداف منها تعزيز بيئة الأعمال والاستثمار من خلال توفير جهة قضائية متخصصة وسريعة الفصل في المنازعات التجارية والاستثمارية، مما يُعزز الثقة القانونية للمستثمرين المحليين والأجانب، بالإضافة إلى تقليل العبء على المحاكم العامة وذلك من خلال نقل القضايا التجارية إلى قضاة متخصصين، الأمر الذي يسهم في رفع كفاءة النظام القضائي العام، بجانب تحقيق العدالة الناجزة من خلال اعتماد إجراءات سريعة ومنظمة مع كفاءات قضائية ذات خبرة في الشؤون التجارية. كما تهدف المحكمة إلى تهيئة البيئة الاستثمارية لجذب الاستثمار الأجنبي؛ الأمر الذي يتطلب عدم عرقلة القضايا المعروضة عليها وسرعة إنجازها وتنفيذها. وهذا العمل يشجّع رؤوس الأموال على التوجه لعُمان، خاصة وأن البيئة الاستثمارية للبلاك تتميز بتوفير الكثير من الحوافز والدعم خاصة في مجال تأسيس الشركات الكبيرة التي تعمل على تقليل استيراد السلع والمنتجات من الخارج، وبالتالي تقلّل من تحويل المبالغ المالية والعملة الصعبة إلى خارج البلاد.
إن وجود المحكمة التجارية سوف يعمل بلا شك على مساعدة عمليات التغطية الشاملة للقضايا التجارية الحديثة التي تشمل المنازعات بين الشركاء والمساهمين، وكذلك النظر في القضايا المالية والمصرفية وغيرها من القضايا التي تهم العمل التجاري؛ فرؤية "عُمان 2040" تركز على هذه القضايا وتمثّل إطارًا استراتيجيًا شاملًا للتنمية الوطنية، وتضع العدالة المتطورة والقضاء المتخصص كركيزة لتعزيز بيئة الأعمال والتنافسية. كما تؤكد الرؤية على تفعيل القضاء المتخصص، خاصة في الجوانب التجارية والاستثمارية، وتوظيف التقنيات الحديثة لرفع كفاءة النظام القضائي.
ومن هذا المنطلق، فإن المجلس الأعلى للقضاء وضع خطة استراتيجية للسنوات (2024- 2040) تتضمن تحديث التشريعات، وتكوين كوادر متخصصة، وتبسيط إجراءات التقاضي؛ بما يتماشى مع أهداف الرؤية، بجانب العمل على تعزيز التحول الرقمي، وتطوير نظم إلكترونية لإدارة القضايا والوثائق القضائية، وبناء محاكم ذكية، لتعزيز العدالة الناجزة وتقليل الوقت والتكلفة على المتقاضي. وكجزء من هذه الرؤية فإنه يتم العمل على تقوية ثقة المجتمع والمستثمرين في النظام القضائي، بحيث يعكس العدالة والشفافية والسرعة محاور هذا النظام.
وقد بدأت الخطوات المتخذة لتسريع عمليات التقاضي والتحكيم التجاري من خلال العمل الرسمي بمحكمة الاستثمار والتجارة بدءًا من شهر أكتوبر 2025 مع توفير هيكل تنظيمي كامل في عدة ولايات لتسهيل الوصول للخدمات القضائية، الأمر الذي أدى إلى تعديل مواعيد الجلسات لتتماشى مع دخول المحكمة الجديدة، مع إشعار الأطراف المعنية بتغييرات النظام.
المحكمة تعمل وفق إجراءات تقنية حديثة باستخدام أنظمة إلكترونية لإدارة القضايا وتبادل الوثائق، مع إمكانية عقد الجلسات عن بُعد لتقليل التأخير في الإجراءات. وهذ الإمكانات تساعد بالفعل على تطوير آليات التحكيم، وتشجيع التحكيم التجاري من خلال تعزيز البنية المؤسسية للمراكز المحلية والإقليمية، وتوقيع مذكرات تفاهم مع جهات دولية، إلّا أن الأمر يتطلب تدريب القضاة من خلال تقديم برامج تدريبية متخصصة لهم ولبقية العاملين في القضاء التجاري لضمان جودة الفصل والكفاءة.
ورغم هذه التطورات، إلّا أن هناك بعض العوائق التي تحدّ من العمل القضائي التجاري في عُمان وتتمثل في تعقيدات تشريعية وتطبيقية؛ فرغم التطور، فإن بعض النصوص لا تزال تحتاج للتحديث لتعزيز الوضوح والاتساق في مجالات التقاضي التجاري والتحكيم. وبسبب التغيير الانتقالي من النظام القديم إلى المختص الجديد قد تحدث بعض التأجيلات التنظيمية في المواعيد والإجراءات. كما إن بعض المختصين يرون أن التحكيم التجاري مكلف نسبيًا بسبب التكلفة العالية لبعض إجراءاته، وتُعد عائقًا أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة مقارنةً بالتقاضي أمام المحكمة المتخصصة، فيما يرى البعض أنَّ التحكيم التجاري بحاجة لخبرات متعمقة لضمان جودة الفصل التجاري وضرورة توفير خبرات قضائية عالية المستوى في قضايا معقدة مثل القضايا الدولية أو ذات البُعد التكنولوجي.
وأخيرًا.. يتطلب الأمر الإسراع في التحول الرقمي الشامل وتوفير مزيد من المنصات الإلكترونية المتطورة؛ حيث لا يزال هناك تحدٍ في إرساء ثقافة قضائية رقمية مُتكاملة لدى كل المتقاضين والمُمارسين القانونيين. وهذه القضايا تستدعي تعزيز آليات التنفيذ وتجاوز العقبات البيروقراطية أو التقنية التي تُعيق سرعة تحصيل الحقوق المحكوم بها؛ الأمر الذي يتطلب تعزيز منظومة الكوادر القضائية المتخصصة وتدريب عدد أكبر من القضاة الاقتصاديين في تلك المجالات، بجانب استقطاب أفضل الخبرات لتفادي تراكم القضايا وتباطؤ البت في ظل زيادة المنازعات.
