أيها التاريخ: ابتعد أكثر وأكثر

 

زاهر بن حارث المحروقي

على عكس المواقف الرسمية العربية، فإنّ مواقف الشعوب العربية من قضية التطبيع مع إسرائيل، هي مواقف مشرّفة جدًا؛ إذ أنّهم يرفضون أيَّ شكل من أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ وهم بذلك أرقى بكثير من مستوى الحكومات العربية، التي أخذت تتسابق في الهرولة إلى إسرائيل. من هنا فإنّ كلّ المحاولات التي تبذلها هذه الأنظمة لكسر هذا الرفض ستبوء بالفشل، ولنا في الشعب التونسي مثلا؛ حيث رفض كلّ محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني، ونظم احتجاجات في أكثر من موقع، وطالب نشطاءُ وأحزابٌ بفتح تحقيق، مع اتهام الائتلاف الحاكم بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، وسط دعوات متكررة لضرورة المضي في إقرار قانون رفض كلِّ أشكال التطبيع الذي قدّمته المعارضة في البرلمان التونسي ولا زال مركونًا في الرفوف.

حدث كلُّ ذلك بعد أن بثت القناة الإسرائيلية الـ"12"، تقريرًا عن زيارة وفد إسرائيلي إلى تونس، تحدّث عن قيام السياح الإسرائيليين بالبحث عن منازل وقبور آبائهم وأجدادهم في جزيرة جربة. وكان المؤلم، أنّ برنامج الزيارة شمل البيت الذي اغتال فيه عملاءُ الموساد، القياديّ الفلسطيني التاريخي خليل الوزير (أبو جهاد)، يوم 16 من إبريل 1988، بالضاحية الشمالية للعاصمة؛ وممّا زاد من استفزاز شعور المواطنين التونسيين، أنّ التقرير بث مقطعًا يُظهر هؤلاء السياح على متن حافلة في تونس يهتفون "تحيا إسرائيل"، مع تصريحٍ لإيريس كوهين المرافِقة السياحية، أنّ الزيارات الإسرائيلية إلى تونس هي "جزءٌ من السياسة التونسية في الانفتاح على العالم الخارجي، بسبب الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد، ورغبتها في تحسين السياحة الخارجية". وجاء في التقرير أنّ الحكومة التونسية باتت تسمح بزيارة الإسرائيليين مرة واحدة في العام على الأقل، ممّا جعل عدد السياح الإسرائيليين إلى تونس يسجل مؤخرًا أعلى معدلاته منذ اندلاع الثورة التونسية قبل 8 سنوات. فيما قالت رينا متسيلح مراسلة القناة الإسرائيلية الـ"12"، التي شاركت في الزيارة، إنّ الحافلات السياحية للسياح اليهود تتمتع بإجراءات أمنية مكثفة، مبينة أنّها التقت وزير السياحة التونسي رونيه الطرابلسي "وهو محاطٌ بمئات الإسرائيليين من السياح الذين يأتون إلى تونس بجواز سفر إسرائيلي، وألقى كلمةً في المكان أمام الإسرائيليين الزائرين".

وبما أنّ صوت الشعب التونسي الرافض للتطبيع ولمثل هذه الزيارة، كان عاليًا، فقد سارع وزير الخارجية التونسي، إلى نفي وجود تطبيع مع الكيان الصهيوني. وحذت حذوه وزارة الداخليّة التونسية، التي نفت دخول سياح بجوازات إسرائيلية إلى التراب التونسي، وأكّدت أنّ المنزل الذي تمّ عرضه خلال التقرير الصّحفي على القناة الإسرائيلية، هو ملك رجل أعمال تونسي بنهج "سيدي الشبعان"، وأنّ المنزل الذي وقع فيه اغتيال الشهيد خليل الوزير، يبعُد عن المنزل الذي تمّ عرضه قرابة 4 كلم. وهذا الكلام يتنافى تمامًا مع ما جاء في التقرير المصور، حيث تشير المراسلة إلى أنّ المرافق السياحي تكلم عن منزل أبي جهاد بصوت خافت، كي لا يثير حفيظة التونسيين، فيما مثّل التقرير بالصوت والصورة دليلًا حول ثبوت زيارة إسرائيليين بجواز سفر إسرائيلي إلى تونس.

ممّا يزيد من الألم؛ أنّ بعض الأخبار ذكرت أنّ الفوج الإسرائيلي الذي زار تونس وقام بزيارة منزل الشهيد أبي جهاد، كان فيه أشخاصٌ من الذين نفذوا عملية الاغتيال، لكن هذه المرة لم يكونوا متخفين، مثلما حدث يوم 16 من أبريل 1988، عندما اغتالوا الرجل أمام زوجته وطفليه، بل زاروا المنزل علنًا وكأنّ المسألة هي تشف؛ وذهب الآخرون إلى أبعد من ذلك عندما ذكروا أنّ هناك فريقًا إسرائيليّا ينوي إخراج فيلم سينمائي عن عملية الاغتيال.

إنّ الأجيال العربية الجديدة لا تعرف أولئك الرجال الذين ضحوا بحياتهم في سبيل قضيتهم؛ - ومن هؤلاء خليل الوزير أبو جهاد -، لأنّ المفاهيم تغيّرت؛ إلا أنّ الثابت هو أنّ الشعوب العربية ما زالت راقية ومازال موقفها – حتى الآن -  مشرّفًا في رفض التطبيع والهرولة. فأبو جهاد، هو أحد مؤسسي حركة فتح، وقد تولى مسؤولية مجلة "فلسطيننا" التي تحولت إلى منبر لإستقطاب المنظمات الفلسطينية التي كانت متناثرة في العالم العربي. وشارك في حرب 1967، بتوجيه عمليات عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي في الجليل الأعلى، كما كان له الدور القيادي في معركة الصمود، خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، والتي إستمرت 88 يوماً؛ إلا أنه غادر مع أبي عمار وبقية القيادات الفلسطينية، بيروت إلى تونس في العام نفسه، وبقي فيها حتى يوم استشهاده. وقد برز اسمه بقوة، أثر اندلاع الانتفاضة الجماهيرية الأولى في فلسطين المحتلة.

ولكي أبين إلى أيِّ مدى وصلنا إليه من الإذلال، ينبغي أن أعود إلى ثلاثين سنة وراء، وأسرد ماذا فعل فريق كومندوز الموساد في تلمك الليلة، من شاهد عيان عايش الحدث الأليم بحذافيره أولا بأول. فقد حكت انتصار الوزير أم جهاد عن اللحظات الأخيرة في حياة زوجها؛ حيث سمعته في حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا في ذلك اليوم البعيد، يتحرّك بسرعة تاركاً مكتبه، فإذا به يحمل مسدسه متجهاً إلى باب الغرفة، لحقَت به ووقفت إلى جانبه، لكنه طلب منها الابتعاد. تقول "وقفتُ في الزاوية الأخرى لثوان.. شاهدت أمامي شخصاً على بعد متر واحد، كان في حوالي الثانية والعشرين من عمره أشقر، يضع على وجهه قناعاً شبيها بقناع غرفة العمليات ولم يتكلم أبداً، أطلق عليه أبو جهاد رصاصة من مسدسه، فرد عليه بمخزن كامل من رشاشه، سقط أبو جهاد على الأرض، ذهب وجاء رجل آخر ظننتُ أنه سيقتلني أنا، ولكنه عاد وأفرغ رشاشه بجسد أبي جهاد. جاء الثالث وفعل الشيء نفسه، كنت أضع يدي فوق رأسي وأنطق بالشهادتين، وأنا أتوقع قتلي. كنت أدير وجهي وعندما جاء رابع ليفعل الشيء نفسه، صرخت بأعلى صوتي "بس"، لكنّه أفرغ رشاشه في جسده. ثم توجهوا جميعاً نحو غرفة النوم حيث ابني نضال البالغ من العمر سنتين ونصف، فكرت به وشعرت بخوف شديد عليه. وبحركة عفوية حاولت أن أتحرك نحوه، لكن أحد المهاجمين وقف أمامي يهددني برشاشه كي لا أتحرك. دخل الآخرون إلى غرفة النوم، أطلقوا زخات من الرصاص، فتيقنت أنّ نضال قد قتل ولكنه كان يصرخ وكان صراخه يطمئنني. انسحبوا من غرفة النوم، كانت حنان قد خرجت من غرفة نومها لترى ما يحدث. فوجئت بالأشخاص المجهولين أمامها، فوجئت بأحدهم يقوم لها باللغة العربية "روحي عند أمك". غادر القتلة المنزل تاركين خلفهم حوالي سبعين رصاصة في جسد أبي جهاد.

ما حدث في ذلك اليوم البعيد يكفي مهانة، وهو أكبر دليل على اختراق إسرائيل الأوطان العربية. فماذا يمكن أن نقول إن كان المجرمون يزورون علنًا البيت الذي نفذوا فيه جريمتهم؟! إنّ خوفنا من أن يكون ذلك بداية لسلسلة أخرى طويلة من الآلام؛ لذا فإنّنا نردد ما قاله الكاتب عبد الله حبيب على صفحته في الفيسبوك، هذه الكلمات التي تقطر دمًا، عن تلك الزيارة: "أيّها التاريخ: ما الذي تستطيع أن تفعله بنا أكثر من هذا؟ أيّها التاريخ: أرجوك ابتعد أكثر وأكثر".