الملازم علي الكندي.. ذاكرة من ذهب

 

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

في زاوية من الزمان، تتجسد البطولات لا في صخب المعارك، بل في هدوء صوت رجل بلغ من العُمر عتيًا، لا تزال كلماته تنبض شرفًا، وذكرياته تعبق بالمجد. جلستُ إليه، وكان صوته خافتًا، ولكنه نافذ إلى القلب، يتحدث عن التاريخ وكأنه يعيشه من جديد، عن رفاق السلاح الذين مضوا، عن ساحات الوغى، وعن وسام الشجاعة الذي لا يُوضع فقط على الصدر، بل يُغرس في الروح.

الملازم علي واحدٌ من القامات العسكرية العُمانية الذين خدموا الوطن بإخلاص نادر، يقترب اليوم من العقد العاشر من عمره، ولكن في حديثه ما يُوقظ أجيالًا. رجل نحتت ملامحه الرمال والجبال وعشق الرماية حتى يومنا هذا، وخطّت كلماته عزيمة لا تلين. كان من أولئك الذين لا يكثرون الحديث، ولكن إذا تحدثوا أنصت التاريخ، واحترمتهم الذاكرة.

حين تسمع اسمه يتكرر في ملفات الشرف بقوات السلطان المُسلحة، فإنك تستعيد مشهدًا جليلًا لرجل حصل على أرفع الأوسمة العسكرية: وسام البسالة، وسام الشجاعة، وسام الخدمة المُتميزة وسام الشجاعة من ملكة بريطانيا. ليست هذه مجرد أوسمة تُمنح، بل هي محطات من حياة رجل عاش كل واحدة منها بصدق وجسارة.

يقول الملازم علي، وقد تلمع عيناه بما يشبه الدمع: "أصدقائي؟ كثير منهم مضوا، مضوا قبل أن نشهد معًا ثمار ما زرعناه. بعضهم ارتقى في ساحات الشرف، وبعضهم غادرنا في هدوء، ولكنهم لم يغادروا قلوبنا أبدًا".

حديثه لا يحمل نبرة شكوى، بل فخرًا دفينًا وحبًا أصيلًا لسلطانه ووطنه. يتحدَّث عن السنين التي قضاها في خدمة الوطن وكأنَّها كانت بالأمس. وعن اللحظات التي وقف فيها وزملاؤه سدًا منيعًا، حين كان الوطن يحتاج إلى الرجال لا إلى الشعارات.

هؤلاء الرجال، الذين من طينة الملازم علي، هم من صنعوا الفارق في زمن الاختلاف، ومن حافظوا على أمانة الدولة حين كانت تُواجه تحديات لا تُحصى. لم يكن لهم من مطلب سوى أن تبقى عُمان عزيزة، شامخة، آمنة. وكان لهم ما أرادوا.

وفي عيون هذا الجيل من المحاربين القدامى، ترى كل التضحيات التي صنعت حاضرًا نعيشه الآن بأمان وفخر. لولاهم، لما نبتت شجرة السلام بهذا الثبات، ولا امتد ظلها إلى أبناء اليوم.

قد ينسى البعض صورهم، أو تخبو أسماؤهم في زوايا الأرشيف، ولكن لا يحق لنا أن ننسى ما قدموا من سنين أعمارهم، وضحوا بأعز ما يملكون ليكون لنا وطن كما نعرفه اليوم.

الملازم علي لا ينتظر تكريمًا ولا تصفيقًا. ولكنه يستحق أن تُروى قصته، وأن تظل سيرته حيّة بيننا، رمزًا لجيل نادر. جيل كانت فيه الكلمة عهدًا، والخدمة شرفًا، والصمت مبدأ.

قد يكون الزمان قد تغيّر، وقد تكون أشكال الخدمة اختلفت، ولكن يبقى الجوهر ثابتًا: الوطن أمانة، ومن سبَقونا هم جذرٌ لا ينبغي أن يُنسى.

رسالتي إلى الجيل الجديد، أن يجلسوا مع أمثال الملازم علي، لا ليسمعوا فقط، بل ليتعلموا. فالتاريخ الحي لا يُدرّس في الكتب فقط، بل يُروى على ألسنة من عاشوه بصدق.

وفي هذه الذكرى، أكتب لا لأودعه، بل لأقول له: نحن معك، ولم ننسك، ولن ننسى. ستظل ذكراك مجدًا نتمسك به، وأنت حيٌ بيننا، بصوتك الخافت، وتاريخك الصارخ.

كم أنت عظيم عمِّي عليّ كما يريح قلبي أن أناديك عندما أجلس منصتًا لك فيما تقول وكل ما تقول أحداث تريح نفسي لأنها أيضًا تذكرني بالرجال الذين عملت معهم وسأبقى وفيًا لهم مفتخرًا بهم ما حييت.

الأكثر قراءة