إصلاح التعليم.. "عندما يتسع الخرق على الراتق"

 

 

 

مرتضى بن حسن بن علي

 

يُضرب المثل العربي القديم "اتساع الفتق على الراتق" عندما تتفاقم المشكلات ويصبح إصلاحها صعبًا جدًا. وهذا ما ينطبق على واقع التعليم المؤلم في معظم البلدان العربية؛ حيث تحولت الثغرات التي بدأت في النظام التعليمي إلى فجوات هائلة واسعة يصعب ردمها بسهولة، وساهمت بإعاقة التنمية البشرية وعمّقت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وأدت إلى زيادة البطالة التي تعانيها مُعظم البلدان العربية. ولا يمكن فصل المهارات عن نظام تعليمي لا يواكب متطلبات العصر.

الأنظمة التعليمية الحالية تنتج خريجين يفتقدون إلى القدرات التحليلية والعملية والإبداعية أو الرغبة بمواصلة التعلم، وتتوسع الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجات السوق المتبدلة. وعلى سبيل المثال، تشير تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر من 40% من أصحاب الشركات في المنطقة العربية يشتكون من عدم توافق مهارات الخريجين مع متطلبات الوظائف المعروضة والمتوفرة، مما أدى إلى تفاقم البطالة الهيكلية إلى نسبة تتجاوز 25% بين الشباب العربي.

والسبب الرئيسي لواقع القوى البشرية والمهارات القليلة التي تمتلكها هو نوعية التعليم السائد، مرحلة الطفولة تعتبر صانعة المستقبل. وبقدر ما يمكن تشكيل وجدانها بالقدرات الأساسية وصقلها بمهارات التفكير والخيال والإبداع، بقدر ما يمكن قطف النتائج المرجوة عندما تدخل معترك الحياة ودنيا العمل.

جودة التعليم الأساسي مهمة جدا لتشكيل مواقف تلك الطفولة وبلورة اتجاهاتها من عالمي العلم والعمل، ومن عالم الغد. وإذا كانت مرحلة الطفولة بتلك الأهمية، وصقل مهاراتها بتلك الخطورة، فإنَّ نوعية التعليم تصبح قضية تهم المجتمع بأسره، وتتجاوز مهام وزارات التربية والتعليم، وتصبح مسؤولية جماعية تشترك فيها كل الوزارات وتشارك فيها عقول صفوة المجتمع ومدعوم بأفكار خبراء التعليم الدوليين.

المناهج الحالية تركّز على الحفظ والتلقين بدلًا من تنمية التفكير النقدي. ففي فنلندا مثلاً، يُدرَّب الطلاب منذ الصغر على حل المشكلات عبر مشاريع جماعية، بينما تُقيِّد مناهجنا العربية الإبداع بأسئلة نمطية. والنتيجة؟ جيل يفتقر إلى المهارات الحياتية كالعمل الجماعي والتكيُّف مع التحديات.

والخمول الاقتصادي، وتدني الإنتاجية، وعدم الرغبة في التعلم الذاتي، وتدني أخلاقيات العمل، وعدم القدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة، كل ذلك مرجعه النظام التعليمي العتيق السائد، الذي لا يتجاوب مع العصر، ولا مع متطلبات المستقبل.

التعليم الجيِّد يُعد الركيزة الأساسية لخلق أجيال واثقة من نفسها، وقادرة على التفاعل مع محيطها، ومع ما حولها، وتشكيل سلوكها النظري والعملي والإبداعي.

عملية تنمية القوى البشرية عملية معقدة وذات أبعاد مترابطة ومتداخلة، والتعليم الجيد يشكل حجر الرحى في تلك العملية. ولن نستطيع أن نتقدم أو نحقق أيًّا من أهدافنا الرئيسية؛ سواء أكان ذلك متعلقا بتقليل الحرمان الاجتماعي والاقتصادي أو التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة أو توفير فرص العمل الجيدة أو تعميق الصلة بيننا وبين العالم المتقدم، إذا لم يعط هذا الموضوع ما يستحقه من أهمية.

الثانوية العامة تُعد محطة انفصال من واقع إلى واقع جديد، وفي اليابان مثلًا، يُوجَّه طلاب الثانوية إلى مسارات متنوعة (تقنية، فنية، أكاديمية) وفق ميولهم وأيضًا وفق احتياجات البلد. أما في العالم العربي، فلا يزال النظام التعليمي يعتمد على التخصصات النظرية القائمة على الحفظ والتلقين من قبل معلمين هم أنفسهم بحاجة إلى إعادة تعليمهم. النظام التعليمي يُهمل المهن الحرفية. مثلًا: مصر تُنتج سنويًا نحو 500 ألف خريج جامعي، بينما تُعاني من نقص حاد في العمالة الفنية المؤهلة لقطاعات مثل النقل والطاقة والصناعات المختلفة.

وعلى الرغم أن الإنجليزية هي لغة العلوم الحديثة، فإن 70% من طلاب الثانوية في العراق مثلا (حسب تقرير اليونسكو 2022) لا يستطيعون قراءة جملة بسيطة بها، وهذا ينطبق على عمان أيضا، وهذا يعزل الطلبة عن مصادر المعرفة العالمية، كمنصة "كورسيرا" التي تقدم آلاف الكورسات المجانية، لكنها تبقى حكرًا على من يجيدون الإنجليزية، وبالتالي فإن الضعف في اللغة الإنجليزية، أصبح مثل جدار العزلة العلمية.

وقد تحوّل دور المعلم في الأنظمة الناجحة إلى مُرشد يُحفز الطلاب على التساؤل؛ ففي ماليزيا مثلا، يخضع المدرسون لدورات سنوية في أساليب التعليم التفاعلي، بينما يُقيّد المعلم العربي بمنهج جامد. وقد يُعاقب الطلبة إذا خرجوا عن الكتاب المدرسي، حتى لو كان الطلاب بحاجة إلى مناقشة قضايا كالتغير المناخي مثلًا.

نحن بحاجة إلى إيجاد ثورة حقيقية في النظام التعليمي وليس مجرد إيجاد بعض الإصلاحات.

لا يكفي زيادة الميزانيات المالية أو بناء مدارس جديدة. الإصلاح الحقيقي يحتاج إلى:

"مناهج مرنة" مثل: 1- تدريس البرمجة منذ الابتدائي، مثلما يتم الآن في الإمارات.

2. تدريب المعلمين: على غرار برنامج "تيسول" في الأردن لتعليم الإنجليزية عبر اللعب.

3- شراكة القطاع الخاص، كما يتم الآن في السعودية، حيث تُموِّل بعض الشركات أكاديميات متخصصة في المهن التقنية.

4-تعليم مختلط (أكاديمي + فني) كالنموذج الألماني الذي يدمج الدراسة مع التدريب المهني.

يقول المثل الصيني: "أفضل وقت لزراعة شجرة كان قبل 20 عامًا، وأفضل وقت تالٍ هو الآن.

التعليم ليس ترفًا؛ بل سلاح للبقاء في عصر الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي. وإذا لم نبدأ اليوم، فسيتسع الخرق أكثر... وعندها لن يبقى ما نرقع.

الأكثر قراءة