سلطان بن ناصر القاسمي
بينما كنت أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي في لحظة تأمل عابرة، جذبني مقطع فيديو بسيط لكنه مليء بالحكمة والعمق. كان المقطع يتناول فكرة عنوانها "خمسٌ يُشار لهن بخمس"، فكرة تحمل في طياتها دلالات عميقة عن الحياة وطبائع البشر.
ولأهمية هذه الفكرة وما تحمله من معانٍ قيّمة، قررت أن أتناولها في سلسلة مقالات تستعرض كل جانب منها بشكل مفصل، لنسبر أغوار هذه الحكم ونتأمل كيف يمكن أن تؤثر في حياتنا اليومية.
وبالرغم من بساطة الكلمات، إلّا أن معناها أعمق مما يبدو للوهلة الأولى. هذه الجملة كانت دعوة واضحة للتفكر في معاني الحياة والعلاقات الإنسانية التي تكشف حقيقتها المواقف والأزمات. ما يميز هذه الحكمة أنها ليست مجرد نصيحة عابرة، بل قاعدة عملية تختبر بها النفوس والصفات. وهنا تأتي فكرة "خمسٌ يُعرفن بخمس" لتكون مدخلًا يُعيد تشكيل نظرتنا لأنفسنا وللآخرين. فكما تحتاج الشجرة لثمارها لتعبر عن قيمتها ونوعيتها، كذلك الإنسان، تُعرف شخصيته وقيمته الحقيقية من خلال أفعاله ومواقفه. وحتى من خلال الحوار معه، تنكشف أبعاد منطقه ومنطوقه، لتتجلى حقيقته كما تقول الحكمة: "الرجال صناديق مقفلة، وبمجرد أن تفتح ينكشف ما بداخلها، سواء كانت تحمل الجواهر أو الخردة التالفة".
هذه القواعد الخمس ليست سوى اختبارات حياتية تنكشف فيها الحقائق، فكل شيء يُعرف بحقيقته عندما يُختبر، وعندما نتأمل الحكمة الأولى، نجد أن الشجرة تُعرف من ثمارها. فعلى مر العصور، كان المظهر الخارجي دائمًا ما يُخدع به الناس. ولكن، كما تُعلّمنا الطبيعة، الشجرة تُعرف من ثمارها لا من ارتفاعها أو أوراقها. الإنسان كذلك، لا يُقاس بمظهره أو بما يدّعيه، بل بما يقدمه من عملٍ نافع وأثرٍ طيب. قال الله تعالى: "وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ" (إبراهيم: 24).
إنَّ هذه الآية تُبرز لنا أهمية العمل الصالح والكلمة الطيبة، وكيف أنَّ الأثر الجيد للإنسان هو ما يخلد ذكره. فكما أن الشجرة المثمرة تُبهج الناظرين وتُفيدهم، كذلك الإنسان المثمر بأفعاله وأقواله، الذي يترك أثرًا إيجابيًا يدوم على مر الأيام، فهل فكرنا يومًا كيف يمكن لأفعالنا أن تكون تلك الثمار التي تُعرّف بنا؟
وبالحديث عن الحكمة الثانية، نجد أن المرأة تُعرف عند افتقار زوجها. إن المرأة شريكٌ في رحلة الحياة، ولكن معدنها الحقيقي يظهر في الأوقات العصيبة، لا في أوقات الرخاء. فعندما يمر الزوج بضائقة أو ضعف مالي أو جسدي أو حتى مجتمعي، تكون المرأة الصالحة هي الركيزة التي يستند إليها الرجل والأسرة عموماً فقد تجد امرأة صالحة غير متعلمة لكنها ركيزة تستند عليها جميع الأسرة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" (رواه مسلم).
إنَّ العلاقة الزوجية ليست مجرد شراكة قائمة على المصلحة أو الترف، بل هي تلاحم في الأوقات العصيبة بين الرجل والمرأة؛ فالمرأة التي تصبر وتدعم زوجها عند الشدة تضيف معنى حقيقيًا للعلاقة، وتجعلها أقوى أمام تحديات الحياة. وهنا، تبرز القيم التي تجعلها تُعرف بوفائها وصبرها، قيم تجعلها نورًا في حياة شريكها. وهنا عندما أذكر الحديث عن الوفاء، يجب على الرجل الوفاء والتقدير والاحترام لتلك المرأة، وتستحضرني هنا قصة من واقع المجتمع حيث تعرض شخص ما لحادث سير جعله عاجزاً لفترة زمنية مُعينة، وخلال تلك الفترة لم تتحمل تلك المرأة لتنفصل عن علاقتها الأسرية، تاركةً ذلك الزوج يُصارع الحياة مع أسرته، ليمُن الله عليه بالشفاء ويسترجع قواه وترجع الحياة الجميلة كما كانت ليرزقه الله بمن يعوضه بامرأة صالحة لتضرب مثالاً حيَّاً للمرأة الصالحة تعينه وتعين أسرته، ومن هنا أدعو الله تعالى أن يبارك لهم حياتهم وأن يرزقهم الذرية الصالحة.
أما الحكمة الثالثة، فهي أن الصديق يُعرف عند الشدة. الصداقة كلمة سهلة النطق، لكنها في الحقيقة مسؤولية عظيمة. الصديق الحقيقي هو من يثبت في المواقف الصعبة، لا من يختفي عند أول اختبار. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه" (رواه الترمذي).
إنَّ الشدة تكشف الأصدقاء الحقيقيين الذين يمدون يد العون عندما تشتد الأزمات، وتُظهر زيف العلاقات القائمة على المصالح. فالصداقة ليست مجرد كلمات تُقال في أوقات الفرح، بل هي مواقف يُثبتها الأصدقاء في لحظات الحاجة، وما نعيشه الآن من مواقف في المجتمع كثيرة وشواهد عظيمة يتطلب منا التوقف ملياً في اختيار صداقاتنا وتصنيفهم دون الاندفاع وراءهم من خلال عواطفنا بل يجب أن نستخدم عقولنا لنحدد المسافة التي نسير فيها مع كل صديق بحكمة ووعي.
وفيما يتعلق بالحكمة الرابعة، نجد أن المؤمن يُعرف عند الابتلاء. الإيمان ليس شعارًا يُرفع أو كلمات تُقال، بل هو تصرف وسلوك يظهر في مواجهة الابتلاءات. قال الله تعالى: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (البقرة: 155). كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير..." (رواه مسلم).
إنَّ الابتلاء هو الامتحان الذي يكشف صدق الإيمان ورسوخه. المؤمن الحقيقي هو من يواجه الأزمات بثبات ويقين بأن ما عند الله خيرٌ وأبقى. وهذه اللحظات من الابتلاءات تُشكل محطات لتنقية الروح وتعميق الصلة بالله، حيث يُظهر المؤمن معدنه الأصيل عندما يُثبت صبره وإيمانه في وجه الصعاب، فكثيرٌ منا ينهار عند الابتلاء لضعف إيماننا، وعليه أسأل الله تعالى أن يحفظ الجميع من كل مكروه.
وأخيرًا.. تأتي الحكمة الخامسة لتُذكرنا بأن الكريم يُعرف عند الحاجة؛ حيث يُظهر الكريم كرمه عند الحاجة. فالعطاء الحقيقي لا يكون فقط عند الفائض؛ بل يتجلى عندما يكون الإنسان في ضيق. قال الله تعالى: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" (الحشر: 9).
والكرم لا يقتصر على تقديم المال فقط؛ بل يمتد ليشمل الكلمة الطيبة، والدعم النفسي، والوقوف إلى جانب الآخرين في لحظات ضعفهم. الكريم هو من يعطي دون أن ينتظر مقابلًا، ويضحي بما يملك ليخفف من معاناة من حوله، وهذا هو جوهر الإنسانية الحقيقية. وإذا تأملنا مواقف العطاء عند الحاجة، لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى يُكرمنا دائمًا بما هو أفضل وأعظم مما قدمنا، جزاءً لما أنفقنا أو بذلنا من عطاء.
وفي الختام.. تعلّمنا هذه "الخمس" أن الحياة ليست مجرد مظاهر؛ بل هي أفعال ومواقف تكشف عن جوهر الإنسان. فالحياة التي تُعاش بعقل هي حياة تُقاس بما نتركه من أثر وما نقدمه من خير. فلنكن كالشجرة المثمرة، ولنكن سندًا لمن حولنا في أوقات الحاجة، ولنتعلم كيف نصمد بثبات في وجه الابتلاءات. هكذا تكون الحياة التي تُبنى على القيم، وهكذا تُعرف الحقيقة التي تبقى رغم كل زيف. وفي مقالنا القادم نستكمل رحلتنا في "الحياة لمن عاشها بعقل" لنستكشف خمسًا يرفعن بخمس، تحمل في جوهرها دروسًا تعمّق فهمنا لمعاني الحياة الحقيقية.