صالح السلماني .. رحيل بلا موعد

 

 

أحمد السلماني

 

ليلة خميس، لم يغّرد بها القمر كما جاء في قصيدة بن يزيد؛ بل إن سحابة سوداء لاحت ليلتها وحجبت نوره ليغيب كما تغيب النجوم الساطعة التي تختفي فجأة ويرحل عن سمانا إلى فضاء وعالم آخر، الخبر كان صادمًا بل زلزالا على قلوب أسرته وأهله وأحبائه وزملائه، تمعنت في الرسالة التي حملت الخبر الصاعق طويلاً لعلّي ألامس خطأ إملائياً بها، انتشر الخبر كالنار في الهشيم، هنا فقط تيقنّت الحقيقة المرة، صالح السلماني يترجّل عن صهوة جواد الحياة الفانية لتنتقل روحه النقية لبارئها عزّ وجل.

نشأ وترعرع في قرية المزاحيط الوادعة، عشقها فبادلته الحب وسكن في تربتها، ولأنه لم يغادرها فلم ترضَ هي الأخرى أن تغادره فضمته إلى صدرها، ترعرعنا سويًا وعلى مدى خمسة عقود لم أره يومًا متجهما أو غاضباً رغم كل ما يلّم بالإنسان من نوائب، هدوء عجيب في تناول أية معضلة مهما كان حجمها، ما كان عليه أن يكون كذلك دائمًا؛ إذ لا بُد للإنسان أن يفّرغ ما في جوفه وقلبه من أحزان وهموم، هو ليس كذلك، فكانت القاضية.

كثيرون مثلي لم يكونوا يدركون أن هذه الشخصية وبكل ما تحمله من ود وطيبة وهدوء هي في الحقيقة كانت قاسية، عندما رحلت بلا موعد وبلا سابق إنذار لتغرس في قلوبنا سهام الحزن وألم الفراق والرحيل المباغت.

إنَّ حياة أبي محمد كانت بلا صخب ولا ضجيج، هو يؤمن بالعمل لا سواه، عمل بصمت ورحل بصمت، إذ فقدت الأوساط التربوية المربي الفاضل مدير مدرسة صهيب بن سنان، إحدى أعرق المؤسسات التعليمية على مدى أكثر من خمسة عقود بعد أن تدّرج في السلك التعليمي والتربوي وانتقل بين عدة مدارس، لم يكن يحب أن يعيش في غياهب هوامش الحياة، ولأنه خريج تربية رياضية وتوجها بماجيستير الإدارة التربوية؛ فقد سلك خطًا موازيًا آخر لينخرط في العمل بالقطاع الرياضي، بدأ بممارسة كرة القدم ثم مدربًا وإداريًا ورئيسًا في فترة ما لفريق المزاحيط الرياضي، أحد الفرق المؤسسة لنادي الرستاق، وقد كان طموحا ورغبته شديدة في ترجمة خبراته والمستوى الأكاديمي الذي يمتلكه في خدمة ولايته، لذا انضم لمجلس إدارة النادي على فترات وكان آخرها نائباً للرئيس.

مشوار طويل وعمل دؤوب أرهقه كثيرا، لكنه كان كتومًا لا يشتكي، عندما تسأله أو تحاوره تجد ما في مكنونه هو ما في لسانه بكل شفافية وصدق، هل سمعتم يومًا عن شخصية بمعدّل "صفر أعداء" هو كذلك.

إرث كبير من التقدير والاحترام وكرم الأخلاق خلّفه الراحل توزع ما بين تلاميذه وزملائه المعلمين وكل من مر عليه بالسلك التربوي على مدى ما يقارب 28 عاماً ونيف من العمل الشاق والمضني، فضلا عن شبكة علاقات واسعة في الوسط الرياضي بالبلاد من شمالها إلى جنوبها، كما ولا يوجد مشروع خيري بالقرية إلا وله فيه نصيب الأسد من حيث المبادرة بالمال والحال.

ولقد أدركت ذلك حقيقة عندما رأيت مشهد ازدحام البشر والسيارات مساء رحيله، الرحيل كان مؤلماً والفقد جللا، إلا أن العزاء كان في مشهد الجنازة المهيب والأمواج البشرية الهائلة التي حضرت وتسابقت لوداعه، ومن ثم ازدحام مجلسي العزاء بالمعزين لأن الراحل له في مكنون الناس معزّة خاصة، مثل هذه المشاهد باتت قليلة، هنا أدركت حقيقة أنَّ الإنسان بإيمانه وكريم أخلاقه وصنائع معروفه وهي ما سيبقى معه ولهذا كم أغبطك يا ابن عمي، وقد كتبت هذه الكلمات والحروف وكلي ألم وأمل في أبنائه وإخوته ونحن معهم أن نستقي شيئاً من سجاياه العطرة ولأوثق شيئاً من إرثه وخصاله الحميدة.