الرسالة لم تلامس قلب أبي جهل

عيسى الغساني

"وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا".. هذه المقدمة لحقيقة أن الأنسان مثيرٌ للجدل بفكره وسلوكه الذي ينطلق من مستوى الوعي والإدراك الذي تُحرِّكه وتنظِّمه منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية الناشئة في حيز مكاني مُحدد، وبمعنى آخر المجتمع وما يُنتجه من ظواهر اجتماعية إيجابية أو سلبية.

هناك من البشر من سطّر اسمه في سجل الخالدين وأصبح أيقونة بفكره وسلوكه، وشكّل نموذجًا إنسانيًا رفيعًا يُقتدى به، فكل الأمم والشعوب عبر تاريخها لديها شخصيات حفرت ذكراها في القلوب والعقول من نور يشع بجلال ضيائه على الروح والعقل، وهناك من بقي في ذاكرة أمته والبشرية بسوء فهمه وقلة وعيه وتموضعه في الجانب الخاطئ من المُثًل والقيم الإنسانية الرفيعة.

كُل الرسالات السماوية حملت قيمًا إنسانية وخاطبت الضمير والوجدان البشري سعيًا لبناء ضمير جمعي يتأسس على قيم الكرامة الإنسانية "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ"، والرسالة المُحمّدية الخالدة رسالة المحبة والسلام والخير للبشرية جمعاء، رسالة الرحمة "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".. نعم هي رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رسالة تحرِم الظُلم والعدوان بكل صورة وأشكاله أيًا كان المسوِّغ "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ".

تلك الرسالة عبرت وتعبر وسوف تعبر حاجز الزمن والمكان؛ لأنها في بذورها البقاء والنمو والديمومة؛ فهي تُلامس قلب الإنسان السَوِيْ صاحب الروح الصافية والعقل الواعي والمتجرد من قيود المادة الآنية.

لكن إذا كان هذا واقع الحال لهذه الفكرة الخالدة، فلماذا لما تُلامس الرسالة قلب أبي جهل؟ الجواب أنه قبل أبي جهل، كان هناك النمرود وهامان اللذان أعماهما وأفسد روحهما ما تحت أيديهما من طبيات ومال؛ حيث قادهما العقل الضال ليعتقدا أنهما أعلى وأسمى من الآخرين، فأنكرا وتنكّرا وحاربا قيم العدل والخير خوفًا على مكاسب مادية تجاوزها الزمن، فلا خلود إلّا للحقيقة والحق. أما أبو جهل فخوفًا على مكتسباته امتطى جواد الجهل والطغيان، قصورًا وظنًّا منه أنه يستطيع مقاومة الحقيقة الأزلية وأنه يستطيع أن يُطفئ نور الحقيقة، وهذا ما عجز عنه ويعجز عنه كل من خالف الفطرة فكرًا وسلوكًا، والتاريخ يُعيد نفسه، ومن تلك الشاكلة عبر عصور الزمن من أسقطته عدالة السماء.

طوبى لقلوبٍ وعقولٍ أنارت رسالة الحق قلوبَهُم، ووزنت عقولَهُم بميزان العدل، وطهرت قلوبهم من شوائب أسقام العقول.

وعلى الهادي محمد أزكى الصلوات والسلام في ذكرى مولده الخالدة، التي كلما حضرت، استحضرت السلام والمحبة للإنسان أينما كان.