علوم الطبيعة.. حقائق ثابتة أم فرضيات متغيرة؟ (6)

تقنيات مُذهلة قائمة على نظريات علمية خاطئة!

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي **

ذكرنا أن من أهم ضوابط النظرية العلمية أن تكون لها القدرة على تفسير الظواهر العلمية قيد البحث كما لا بُد لها أن تتنبأ بعدد من الظواهر العلمية غير المُكتشفة، لكن تاريخ العلم يكشف عن أمر آخر مهم وهو أن كثيرًا من النظريات العلمية تنجح في تفسير الظواهر العلمية، كما إنها تنجح في التنبؤ بعدد آخر من الظواهر التي تُكتشف لاحقًا، لكنها مع مرور الوقت يَثبُت خطؤها وتُستبدل بنظرية أخرى، فلماذا تفشل النظرية مع مرور الوقت؟ ولماذا يعجز العلماء عن الكشف عن خطئِها من البداية؟

إنَّ سبب فشل النظرية يعود الى ميزة مُهمة لا بُد للنظرية أن تتسم بها، وهي قدرة علماء الطبيعة على تعميم النظرية على الظواهر العلمية الجديدة التي يتم الكشف عنها مع مرور الزمن وتطور العلوم، بحيث تستطيع تلك النظرية التنبؤ بسلوك الظاهرة العلمية التي يتم الكشف عنها مستقبلًا؛ فالنظرية العلمية رُبما تنجح في تفسير الظواهر العلمية التي كانت قيد البحث والتنبؤ بسلوكها أثناء اكتشافها، لكن ذلك لا يثبت صحتها؛ بل لا بُد لها أن تنجح في تفسير الظواهر العلمية اللاحقة والتي قد يتوصل لها العلم، بحيث يتم تعميمها على كل الظواهر العلمية الأخرى الجديدة التي يكتشفها العلم لاحقًا والتي لها صلة مباشرة بالنظرية. فمثلًا نجحت قوانين نيوتن في تفسير حركة الأجسام نجاحًا منقطع النظير، لكن هذه القوانين فشلت في تفسير الظواهر الذرية وما دون الذرية، وكل المحاولات في تعميم قوانين نيوتن على هذه الظواهر العلمية باءت بالفشل، لذا كان لا بُد من إيجاد نظرية أخرى تستطيع أن تفسِّر ما فسرته قوانين نيوتن ولها القدرة على تفسير الظواهر الذرية والتي عجزت قوانين نيوتن عن تفسيرها، وهذا ما قامت به نظرية "فيزياء الكمّ".

السبب الذي يجعل العلماء يكتشفون خطأ النظرية العلمية لاحقًا هو ظهور ظواهر طبيعية جديدة لم تكن معلومة زمن الكشف عن النظرية، ومن هنا يُعد تعميم النظرية وقدرتها على تفسير الظواهر العلمية الجديدة هو الذي يحدد صحتها، لذا لا يمكن للنظريات العلمية أن تتحول الى حقائق علمية؛ لأن العلماء ربما يكتشفون ظاهرة طبيعية جديدة ولا تنجح محاولاتهم في تعميم النظرية العلمية عليها وبذلك يكتشفون خطأ النظرية وعدم إمكانية تعميمها، ولهذا يُقال إن كل نظرية علمية يمكن إثبات خطئها مُستقبلًا!

لكنَّ البعض يقول إن قوانين نيوتن لا يمكن أن نعدها خاطئة، فما زالت هذه القوانين تُستخدم وبصورة واسعة جدًا؛ فالطائرات والسيارات ووسائل النقل الأخرى المذهلة كلها قامت بناء على هذه القوانين والتي وصفت بأنها خاطئة، فإذا كانت خاطئة، فكيف نجحنا في استخدامها في تطوير هذه التقنيات الرائعة؟

قد يعتبر البعض أن نظرية الكمّ هي في واقعها امتداد لقوانين نيوتن؛ فهي أشمل من قوانين نيوتن ويمكن تعميمها أكثر من تلك القوانين.

إلّا أن ذلك غير صحيح؛ لأن الأُسس والفرضيات التي تقوم عليها نظرية الكمّ تتعارض تمامًا مع الأُسس والفرضيات التي تقوم عليها قوانين نيوتن، لذا لا يصح أن نُعِدَّ نظرية الكمّ امتدادًا لقوانين نيوتن.

والصحيح أن العلم كما اكتشف خطأ قوانين نيوتن عند محاولة تعميمها على الجسيمات الذرية ودون الذرية، فقد اكتشف في الوقت نفسه حدود تطبيقها، ومن هنا يُمكن أن نُطبِّقها على عدد من التطبيقات لكن لا نستطيع أن نُطبِّقها على الذرَّة وعلى الأجسام التي تسير بسرعات تقارب سرعة الضوء، ولذا ما زالنا نستخدمها في هذا النوع من التطبيقات.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فالسؤال ما زال قائمًا: لماذا نستخدم قوانين نيوتن في تصنيع هذه التقنيات المُهمة مع أنها قوانين ثبت خطؤها؟

الجواب أن العلم والبشر عمومًا يسلكون أقصر وأيسر الطرق لتحقيق أهدافهم والوصول لغاياتهم، حتى لو لم تكن تلك الطرق صحيحة تمامًا، وهذا ما يحدث هنا، فإن استخدام نظرية الكمّ في تصنيع سيارة أو طائرة، أمرٌ غاية في الصعوبة، ونحتاج الى حواسيب ضخمة وعملاقة للقيام بالحسابات اللازمة؛ بل لا يُمكننا اليوم القيام بذلك بالإمكانات الحاسوبية المتوفرة، بينما يُمكننا القيام بذلك بكل سهولة ويسر باستخدام قوانين نيوتن والتي ثبت خطؤها، لكن لأننا نعلم حدودها ومداها وسهولة استخدامها، فإننا نستخدمها ولا نلجأ الى النظرية الأكثر صحة؛ لأنها صعبة التطبيق، وستوصل الى نفس النتائج التي توصلت لها قوانين نيوتن الأسهل.

إنَّ بساطة القوانين وسهولة استخدامها تعد أحد أسرار بقائها حتى لو لم تكن صحيحة تمامًا، ويبدو أن ذلك لا يسري على قوانين الطبيعة فحسب؛ بل هذا الأمر بمثابة قانون مُهيمِن على كل القوانين والنُظُم التي توصلت إليها البشرية أيضًا؛ فالقوانين والتشريعات الصحيحة الصعبة والمعقدة لا يُكتب لها البقاء.

*******************

سلسلة من المقالات العلمية تتناول علوم الطبيعة، وتُجيب على أسئلة ما إذا كانت هذه العلوم مجموعة من الحقائق التي لا يعتريها شك ولا شبهة، أم أنها محض ظنون لا يُقر لها قرار وتتغير بتغير الزمان؟

 

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس