علي بن مسعود المعشني
تابعتُ حلقات العراقي محمد السيد محسن والتي تحدث فيها عن سنوات أسره في إيران فترة الحرب العراقية الإيرانية، ثم الافراج عنه وبقائه في طهران، وعمله صحفيًا بالقسم العربي بالإذاعة الإيرانية، وقد دوّنها لاحقًا في كتاب بعنوان "أسير عراقي في إيران"، بعد أن راجت تلك الحلقات وحققت مُتابعات ومشاهدات عالية.
ما لفت نظري واستوقفني كثيرًا في حديث الأسير محمد السيد هو حديثه عن فترة عمله في إذاعة طهران؛ حيث قال: "كُلفنا ذات يوم بإعداد برنامج محلي بعنوان "حدث في مثل هذا اليوم"، فعكفنا على مراجعة أرشيف الإذاعة للبحث عن مواد تناسب البرنامج، فاستشكل علينا أثناء بحثنا الجواب على سؤال: هل يمكن أن يشتمل البرنامج على تواريخ من أيام الشاه أم من زمن الثورة فقط؟! حيث رفعنا الأمر إلى مدير الإذاعة حينها وهو محمد هاشمي رفسنجاني شقيق الرئيس علي هاشمي رفسنجاني، والذي كان جوابه صاعقًا لنا كعرب وعراقيين، حين قال تاريخ الشاه من تاريخ إيران ويجب عدم تجاوزه أو إلغائه". يقول محمد السيد عرضنا مقاطع لشاه إيران وهو يُعاتب مسؤولين ويحثهم على الإصلاح وتقديم خدمات تليق بالشعب ومطامحه، ولم يعترض عليها أحد وأذيعت كما هي، والأكثر من ذلك أن قصر الشاه والذي أصبح مزارًا لاحقًا تُركت فيه كل آثار الشاه ولحظاته الأخيرة دون مساس كشواهد تاريخية، من أدوات شخصية ومقتنيات وأوان استخدمها الشاه وأفراد أسرته للمرة الأخيرة، وقبل مغادرتهم طهران بصورة نهائية بعد انتصار الثورة.
كلام محمد السيد محسن أعادني بمرارة إلى وضعنا العربي واستعدتُ ما تمكنت من سياسات حرق المراحل التي وظفها النظام الرسمي العربي لتصبح من السمات اللازمة له؛ حيث يأتي النظام الجديد وكل همه كيفية طمس منجزات من سبقه وكأنها مكاسب شخصية أو ثأرات، وبالتالي حُرمت أوطاننا من نعيم التجارب التراكمية والتداول السلمي للتاريخ السياسي لهذا البلد أو ذاك. لهذا نجد التراجع الكبير للتنمية في الأقطار العربية والترحم السريع على كل نظام سابق حين نفتقد سكينة أو استقرارا أو نمطا معيشيا ما.
كما سادت ثقافة التشفي وترحيل الثأرات والأحقاد من عهد إلى عهد، واتسعت الفجوة والقطيعة بين الحكام والشعوب أكثر فأكثر وأندس من خلالها جميع خصوم الدولة من الداخل والخارج فأشاعوا ثقافة العداء والثأر من الحكام، وقد تجلى ذلك بوضوح تام في شعارات وتفاصيل "الربيع العبري"، وامتهن المحسوبون على النُخب الترويج لثقافة البؤس والفجيعة وتكريس الهزيمة النفسية بزعم الغيرة على حال الأمة واستنهاض شعوبها!!
لم يسلم قُطر عربي للأسف الشديد- إلا ما رحم ربي- من ثقافة حرق المراحل والاجتثاث حتى في أبسط الأشياء، فلم تسلم مناهج تعليمية ولا خطابًا إعلاميًا ولا تعريفات للهوية والثوابت من التغيير؛ بل وحتى بعض الغيورين من رجال الدولة أو ممن حملوا المسؤوليات في هذا القُطر العربي أو ذاك، والذين دونوا مذكراتهم أو ذكرياتهم لتصحيح المسار في لحظة صفاء وعي ويقظة ضمير، لم تسلم رؤاهم تلك من الانتقائية أو الثأر والإدانة بلا وعي لهذا الطرف أو ذاك تلميحًا أو تصريحًا، فحملت الأجيال تلك الشهادات كما هي وتداولتها جيلا بعد جيل، وكأنها حقائق ومسلمات لا تعرف النقاش أو النقد، وهذا ما يُهدد الذاكرة الجمعية للمجتمع ويُفرغها، وينال من مناعة الدولة وحيويتها نتيجة التغييب القسري للحقائق.
قبل اللقاء.. الغريب أن معمر القذافي شذَّ عن القاعدة العربية وكأنه يقرأ المُستقبل؛ حيث منع إطلاق اسمه على أي مرفق أو منشأة أو وحدة عسكرية أو مشروع في ليبيا، وحملت جميعها أسماء رموز تاريخية وجهادية ودينية ليبية، لهذا لم يجد جرذان الناتو شيئًا يُغيرونه ويتشفون به سوى العبث بالدولة الليبية ومكتسباتها.
وبالشكر تدوم النعم.