استشراف سوق العمل

 

مسلم سعيد مسلم مسن

نشرت وزارة الاقتصاد مُؤخرًا "مجلد البرامج الاستراتيجية"، أحد وثائق خطة التنمية الخمسية العاشرة (2021 -2025)، والذي يتضمن عدد 430 برنامجًا موزعة على محاور الخطة الأربعة والأولويات الاثنتي عشرة، مضافًا إليها أولوية تطوير قطاع الشباب وأولوية تقنية المعلومات والاتصالات المستحدثين في إطار إعداد خطة التنمية الخمسية العاشرة. عند مراجعة هذا المجلد، تحديدا في المحور الخاص بالاقتصاد والتنمية وأولوية سوق العمل وجدنا البرنامج (8-1) المتعلق بتأسيس المركز الوطني للدراسات الاستشرافية لمستقبل سوق العمل.

هذا البرنامج- وفق التفاصيل الواردة في المجلد- يأتي ضمن البرامج الهادفة إلى إيجاد سوق عمل بقوى بشرية ذات مهارات وإنتاجية عالية وثقافة عمل إيجابية. كما يتضمن وصف البرنامج رغبة الحكومة في تأسيس مركز بحثي متخصص لإجراء الدراسات الاستشرافية لمستقبل سوق العمل وتوفير البيانات والمؤشرات لدعم سياسات سوق العمل والتشغيل، واستشراف مهارات ووظائف المستقبل على ضوء المتغيرات العالمية والمحلية، وتقديم التوصيات والاقتراحات المناسبة في القضايا المرتبطة باحتياجات سوق العمل والتشغيل والتعليم والتدريب. كذلك أوضح المجلد أن أبرز العناصر الأساسية للبرنامج تشكيل لجنة توجيهية للمركز تكون عضويتها من الجهات الأخرى ذات العلاقة، توفير الدعم المالي لإنشاء المركز وتمويل الدراسات الاستشرافية والبحوث، الاستعانة ببيت خبرة كذراع بحثي للمركز لإجراء الدراسات والبحوث الخاصة بمواءمة مخرجات التعليم العالي مع احتياجات سوق العمل، وضع خطة عمل بحثية للمركز بما يتوافق مع متطلبات رؤية عمان 2040، توفير قواعد البيانات المتخصصة لإجراء دراسات سوق العمل، توفير النماذج الاقتصادية لاستشراف احتياجات سوق العمل من الوظائف والتخصصات، توفير أدلة استرشادية لربط الوظائف بالمهن والتخصصات...إلخ. وقد أشار المجلد بعد تحديد العناصر الأساسية للبرنامج بأن الجهة المسؤولة عن التنفيذ هي جامعة السلطان قابوس والجهات المساندة: وزارة الاقتصاد، وزارة الصحة، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وزارة التربية والتعليم، وزارة العمل، المؤسسات التعليمية والأكاديمية، المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، غرفة تجارة وصناعة عُمان وأخيرا الوزارات والجهات المعنية ذات العلاقة.

لا ندري عن مسار تنفيذ هذا البرنامج، لكن المجلد حدد الإطار الزمني  (2021- 2023)، وبالتالي لا تزال هناك فسحة زمنية كافية للتنفيذ، ما يشغل الجميع هو أن تكون هناك تخصصية متقدمة في استشراف مستقبل سوق العمل لمواجهة التحديات السابقة المتعلقة بصعوبة تحديد متطلبات سوق العمل بدقة من الوظائف والمهن وغياب المواءمة بين مخرجات التعليم والسوق، وربما الحكومة من خلال هذا البرنامج تود أن تفعِّل أداة الدراسات الاستشرافية لسوق العمل والبحوث من خلال ذراع فني قادر على توفير النمذجة الاقتصادية التي على ضوء مخرجاتها (output) يتم تحديد سياسات وبرامج سوق العمل وردم الهوة الحاصلة بين مُخرجات التعليم مع الاحتياجات للسوق، وبالتالي القضاء على الاجتهادات الأحادية والفردية- إن صح التعبير- من الجهات المعنية في تحديد السياسات والبرامج والمهن والتخصصات المطلوبة على المديين المتوسط والبعيد والاعتماد بدلاً عن ذلك على الدراسات العلمية لاقتصاديات سوق العمل.

يبدو أن أهداف المركز المنتظر واضحة من خلال الزوايا المحددة في نشرة البرنامج ومبررة تبريرا واضحا بعد تجربة طويلة من السنوات التي لم تسعفنا في الوصول للقراءة الجيدة لسوق العمل، فهل سنستطيع من خلال هذا المركز استشراف ما غاب عنَّا طويلاً؟. التجارب الدولية تنوعت بين مراكز للدراسات الاستراتيجية تشمل استشراف دراسات سوق العمل وبين أخرى متخصصة وبين الاعتماد على بيوت خبرة متنوعة. المهم في الأمر بأن برامج الخطة الخمسية الحالية خرجت لنا بضرورة تأسيس المركز الوطني للدراسات الاستشرافية لمستقبل سوق العمل، وبالتالي من المفترض بأن هذا البرنامج قد أصبح على سكة التنفيذ. عليه، فإن هذا المقال- تأسيسًا على محتويات البرنامج- يود أن يطرح بعض الموضوعات ذات العلاقة بفكرة المركز ومجالاته وذلك على النحو التالي:

  • الجهة المرجعية لتنفيذ المركز جامعة السلطان قابوس، وهي مؤسسة ذات قيمة علمية عالية وستوفر الموجهات الرئيسية للتأسيس من الناحية الأكاديمية والبحثية، والبنية العلمية المطلوبة والربط والاتصال المؤسسي مع الجهات الخارجية ذات نفس الطبيعة من مراكز وكليات وبيوت خبرة ومتخصصين. الثلاث الجهات الأخرى المساندة والتي تعتبر محورية هي وزارة العمل ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار ووزارة الاقتصاد. جامعة السلطان قابوس والثلاث الجهات المذكورة لها تجارب في مجال دراسات سوق العمل كلا من زاويته، كما أن هناك برامج قائمة في وزارتي العمل والاقتصاد تهتم بمهارات المستقبل والتي هي جزء أصيل من دراسات واستشرافات سوق العمل، تلك البرامج لابد من أن تدرس تجاربها بعناية ويتم التعرف على أبرز تحدياتها قبل الشروع في خطوات تنفيذ المركز وذلك حتى تتم الاستفادة القصوى من نتائج الدراسات المنجزة طول تلك الفترة. فمثلا وزارة الاقتصاد أشرفت على مبادرة مهارات المستقبل ووزارة العمل كذلك قائمة على العديد من البرامج منها برنامج خبرات وغيرها. الاحتكاك بالمؤسسات الدولية التي تقيم دراسات استشراف سوق العمل كان متاحًا بين تلك الوزارات والجهات الدولية، فوزارة الاقتصاد – المجلس للأعلى للتخطيط آنذاك- أسس تعاونا مع مؤتمر دافوس من خلال مبادرة مهارات المستقبل، كما أن لوزارة العمل – وزارة القوى العاملة آنذاك- العديد من التعاونات مع مختلف بيوت الخبرة العالمية ومنظمة العمل الدولية في ما يتعلق بسوق العمل من زوايا عدة منها مهن ووظائف السوق على المديين القريب والمتوسط. ما نريد أن نوصله هنا للجهة القائمة والمشرفة بصفة رئيسية على مشروع المركز (جامعة السلطان قابوس) أن هناك مخزون لدى الجهات المساندة من الدراسات والتعاونات السابقة ليس من الحكمة أن يضيع سدى فلابد من مراجعته وتمحيصه عند الإعداد لمسارات المركز ورسم سياساته وتحديد مجالات استشرافه للسوق.
  • هناك تقاطعات للمركز لابد من مراعاتها مع جهات عديدة، فوزارة الاقتصاد مثلا تهتم بالدراسات التنموية ولديها مديرية، إضافة إلى مديرية السياسات الاقتصادية وما تتضمنه من هياكل مختصة بالنمذجة، وكما هو معلوم دراسات سوق العمل جزء مهم من الدراسات التنموية. كذلك غرفة تجارة وصناعة عُمان (ضمن الجهات المساندة) لديها لجان متخصصة تقيم دراسات للسوق، كما أن لوزارة العمل لجان قطاعية تشرف على المهن والوظائف والتوطين في سوق العمل. كل تلك التقاطعات ونقاط التلاقي من الأجدى مراعاتها وأخذ الإجراءات اللازمة لأن يتكامل معها المركز لأداء رسالته البحثية على أكمل وجه.
  • تضمنت العناصر الأساسية لبرنامج تأسيس المركز الاستعانة ببيت خبرة كذراع بحثي للمركز لإجراء الدراسات والبحوث الخاصة بمواءمة مخرجات التعليم العالي مع احتياجات سوق العمل. إن عملية إنشاء مركز ومن ثم إسناد المهمة لبيت خبرة كذراع بحثي لإجراء الدراسات لا يتناسب مع الطموحات الوطنية بأن تكون للمركز كوادره الوطنية ولا تتم عملية إسناد المهام البحثية إلا في الحدود الضيقة عندما لا تتوافر الكفاءة والمقدرة العلمية.

من المهم عند الاقتناع بفكرة معينة ومشروع مثل هذا المركز التفكير في التأسيس المستدام ولا يكون الغرض تشكيل مجلس إدارة أو لجنة مهمتها فقط إسناد الدراسات لجهات خارجية دون بناء قدرات وطنية في هذا المجال المهم.