مُتطلبات الأمن الغذائي الوطني

 

مسلم سعيد مسلم مسن

يمثل الأمن الغذائي جزءًا مهمًا من الأمن الوطني لأي دولة، ولا يقل من الناحية الإستراتيجية عن كل الجوانب الأخرى (الجيوسياسية، الاجتماعية، السياسية، الأمنية)، وتجمع معظم الأدبيات على أن الأمن الغذائي يتحقق عندما يحصل السكان في كل الأوقات على مصادر غذاء كافية ومأمونة ومُحققة للفوائد الغذائية.

مؤشر الأمن الغذائي العالمي 2022م المنشور في مجلة "ذي إيكونومست" البريطانية (سبتمبر 2022) صنّف ترتيب حوالي 113 دولة على أساس معايير مستمدة من مفهوم الأمن الغذائي المعتمدة عالميًا، وهي سهولة الحصول على الغذاء ووفرة الغذاء وجودة وسلامة الأغذية واستدامة الغذاء والتكيف. وقد حصلت سلطنة عُمان على المرتبة 35 عالميا في هذا التقرير مقارنة بترتيبها 40 في 2021، وهي مرتبة جيدة وتعد في المركز الثالث قياسًا بالدول العربية. وينظر التقرير إلى أربعة معايير رئيسية حققت سلطنة عمان من خلالها المراكز الفرعية على النحو: مؤشر قدرة الحصول على الغذاء (21 عالميًا)،  ومؤشر وفرة الغذاء (34 عالميًا)، ومؤشر جودة وسلامة الغذاء (42 عالميًا) ومؤشر الاستدامة والتكيف (60 عالميا). ومع التقدير للنتائج المحققة وللجهود التي تبذلها بلادنا الغالية وبقية الدول، إلاَّ أن تقرير "ذي إيكونومست" حذّر من أن الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم من خلال التوقعات المستقبلية سيتعرض لتهديد متزايد بجانب الصدمات السياسية والاقتصادية العالمية، كما رأت المجلة أن العوامل البيئية والمناخية وانعكاسات تغير المناخ تهدد بخفض توافر الغذاء والقدرة على تحمل التكاليف والجودة والاستدامة للأمن الغذائي بشكل أكبر.

بمعنى آخر، النتائج الجيدة التي حققتها معظم دول المنطقة في 2022، لا بُد من قراءتها بشي من التفحص لأن استمرار الصراعات الجيوسياسية (روسيا وأوكرانيا) وعوامل تغيُّر المناخ، جميعها مجتمعة تؤثر بلا شك على تقليص الإنتاج الزراعي وتعمل على ترسيخ مبدأ تقييد استيراد الغذاء للعديد من البلدان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وعليه، فإن مواجهة متطلبات الأمن الغذائي الوطني تحتاج إلى عمل دؤوب لا يخبو نشاطه عندما تنخفض درجة مخاطر الأزمات، وإنما يستمر ويستشرف ما بعد تلك الأزمات، فحالة الأمن الغذائي المستقبلية تكتنفها متغيرات قد تكون طارئة على مسارات التخطيط التنموي، كما سلف ذكره. لذا فإن ديناميكية البرامج والمشروعات جانب مهم من إستراتيجية الأمن الغذائي، بالإضافة إلى ما تستوجبه من تغطية لعدة اتجاهات ومجالات من قبل متخذي القرار على المستوى الاستراتيجي والقطاعي (قطاع الثروة الزراعية والمائية والاستثمارات) وتشابك واتساق الإرادة نحو تنفيذ الخطط وتصويب الانحرافات التخطيطية بناء على المعطيات والمستجدات المتاحة.

ويمكن تلخيص متطلبات الأمن الغذائي الوطني للمرحلة المقبلة من الناحية الاستراتيجية، في 3 عوامل رئيسية:

  1. إدارة وتنويع سلاسل التوريد؛ إذ تظل مُعظم الدول- سلطنة عمان ليست استثناءً من هذه القاعدة- تستورد مصادرها الغذائية (سلع أولية ووسيطة ونهائية) من الخارج. هذا العامل يحتاج إلى تحليل تركيبة المستوردات وقدرات التصنيع الداخلي بشقيه المحلي والأجنبي بالأخص في السلع الزراعية الأساسية مثل الحبوب، وهنا السياسات لابد وأن تتركز على تعزيز نمو الإنتاجية للتصنيع الداخلي الموجه للسوق المحلي مع توسيع خيارات الاستيراد للسلعة الواحدة من عدة أسواق بالأخص المواد الزراعية الأولية بهدف تقليل مخاطر الانقطاعات أو التقييد الاستيرادي الذي تمارسه بعض الدول عند حدوث الأزمات.
  2. النهج التنموي والاستثماري: لا بُد من شراكة وتكامل بين القطاعات الحكومية والخاصة والاستثمار الأجنبي المباشر لتلبية متطلبات الأمن الغذائي الوطني، فمنطق الربحية وحدها لا يكفي، وإنما الاستدامة بمعناها الواسع، من خلال مراعاة سلاسل التوريد لأي مشروع والقيمة المحلية المضافة ودرجة التشابك مع القطاعات والمشروعات الاقتصادية الأخرى وغيرها من المتغيرات، فالنموذج الذي يراعي متطلبات الأمن الغذائي الوطني هو نموذج تنموي – استثماري لا يمكن فصله أو تجزأته.
  3.  التحول من البرامج المؤقتة إلى المستدامة: عانت كثيرًا قطاعات الأمن الغذائي من تذبذب السياسات والبرامج على مدى العقود السابقة، وغلب عليها فلسفة ردَّات الفعل عند وقوع الأزمات أو عدم الاستمرارية وكذلك غياب أدوات قياس الأثر المتوقع من تلك البرامج.

وهذه الفلسفة من المهم تجاوزها والتحول من البرامج والخطط المؤقتة (الطارئة) المعتمدة على ردة الفعل إلى البرامج المستدامة للأمن الغذائي التي تعمل وفق مؤشرات أداء واضحة وقابلة للقياس.