مرت سنة!

خالد بن الصافي الحريبي

 

كل "سنة" وأنت طيب! يا ترى ما ذا لو قلت لك إنَّ معناها الأصلي لغوياً لهذه "التهنئة" هو كل "جائحة" وأنت طيب؟ ففي الحقيقة بينما نستعمل كلمتي السنة والعام كأن معناهما واحد (365 يومًا)، إلا أنَّ ثمَّة فارقٍ بين معنى السنة والعام في لغة العرب.

فالعام مُفرد وجمعه أعوام، يدل على الخير والراحة والرخاء والرفاهية، أما صديقتنا السنة فهي مُفرد وجمعها سنين وتدل على الجائحة والتعب والفقر والمجاعة! وذلك حسب معاجم اللغة العربية. وهذا يُفسر ورود العام سبع مرات والسنة تسع عشرة مرة بهذين المعنيين المختلفين في القرآن الكريم. ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ) بعد (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) يوسف ٤٧-٤٩. ويحدث أن تلجأ العرب للتفاؤل للتغلب على السنوات الصعبة فتسميها أعوامًا؛ فمثلاً سمي عام الفيل بذلك؛ لأنَّ العرب تفاءلت بغنيمة وفيرة من جيش أبرهة الحبشي، وسمي عام الرمادة في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بذلك إيمانًا بحسن تدبير الملهم الخليفة الذي كان قدوة في الاقتصاد والزهد وسن التشريعات الاقتصادية الملائمة واستعان بالكفاءات الحكومية في الولايات، فبدأت مُؤشرات الخير والخصب وتجاوز المجتمع الجائحة في أقل من عام. ولأنَّ التأمل والتفكر والتدبر وتقييم الإنسان لأعماله من أهم غايات تواجدنا في الحياة الدنيا، يواجهنا اليوم سؤال ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى إصدار مولانا المُعظم السلطان هيثم بن طارق- أيده الله- مراسيم هيكلة الجهاز الإداري للدولة بوزاراته وهيئاته ومؤسساته العامة، مع وجود 3 نوّاب لرئيس الوزراء، و45 مسؤولًا بدرجة وزير، و89 مسؤولًا بدرجة وكيل، إضافة لحوالي 170 شركة حكومية لم تنشر لغاية يومنا هذا مؤشرات أدائها وبياناتها، وما إذا كانت تطبق أيًا من مبادئ الحوكمة والشفافية المحلية أو العالمية.

"الراحلون يقولون الحقيقة"

التفاؤل والإيمان بالخير من أهم صفات الإنسان المُؤمن بنبل رسالته؛ إذ يقول عزَّ من قائل في الحديث القدسي "أنا عند ظن عبدي بي"، فمع كل نفس نتنفسه نحيي آلاف الخلايا في أجسامنا وتنتعش حواسنا فنتحرك ونسكن ونتغذى ونتعارف ونحب ونتعلم ونعمل ونربي ونبتكر ثم ننسى ونطمئن ونشهد تجدد سنن الحياة. وفي سبيل أن يعيش أي مجتمع في تفاؤل بالخير والراحة والرخاء والرفاهية فإنِّه يتوق لقيادات إدارية ملهمة تبعث التفاؤل في أرواحنا باستخدام الرؤى الطموحة والأهداف الذكية ومؤشرات الأداء العادلة مصونة بإطار مُتفق عليه من الحوكمة والشفافية. كما إن الجوائح ابتلاء يختبر عزيمتنا كمجتمعات ويمنحنا فرصة تاريخية. فقد رأينا معًا كيف استفادت مجتمعات حول العالم من هذه الجائحة وأسست صناعات ناشئة وصغيرة ومتوسطة تتكامل مع الصناعات الكبيرة المحلية والعالمية وتضيف قيمة اقتصادية وصحية واجتماعية وثقافية للنَّاس، ومنها الصناعات المتقدمة والأدوية والتقنيات الغذائية وتبني أساليب الحياة السليمة. ومع هذا التفاؤل تأتي أهمية البحث عن الحقيقة والبيانات التي تطمئننا أننا على المسار الصحيح في خارطة الطريق. ولكن من يبحث عن الحقيقة؟ فقد قال أحد أعظم مفكري ألمانيا فرديك نيتشة فيما معناه أن "وحدهم الراحلون وحدهم يقولون الحقيقة" فبينما دفع البؤس أجيال الأمس للارتحال عن أماكنها طلباً للرزق بالسفر؛ فقد يدفع البؤس أجيال اليوم الرقمية لأن يرتحلوا عن أماكنهم بالسفر بقلوبهم وفكرهم وإنتاجيتهم والأهم بأرواحهم المبدعة والمبتكرة، بينما تبقى معنا فقط أجسادهم.

البؤساء (Les Misérables)

لطالما حيرتني كطفل شخصية الموظف المفتش "جافير" الذي قضى عشرين سنة لا هم له إلا أن يتتبع المكافح "جان فلجان"، الإنسان الذي ذاق طعم الحرية بعد أن سُجِن تسعة عشر عامًا في رغيف خبز سرقه شاباً ليُطعم أهله وأخته وأطفالها الذين ذاقوا معاً مرارة  غلاء المعيشة والجوع والفقر. وما يحيرني في هذه رواية البؤساء هي عبقرية الروائي الفرنسي فيكتور هوجو الذي يرينا أنَّ البؤس الحقيقي ليس الفقر المادي لجان فلجان والطفلة كوزيت؛ وإنما البؤس الحقيقي هو الفقر المعنوي وفقدان الإحساس بالإنسان الآخر والتعاطف معه والمودة والرحمة التي تجسدت في الموظف المفتش جافير الذي نشأ في نفس ظروف الفقر قبل أن يكون موظفًا، والذي بعد أن أفنى عشرين عاما من مسيرته المهنية يلاحق الفقراء وبعد فقد معنى حياته أخبر الجميع حقيقة آرائه وألقى بنفسه في النهر ليرحل عن الدنيا.

مؤمن أن رسالة كل مجتمع ألا يحول موظفيه شيئًا فشيئًا إلى نسخ من المفتش "جافير" تقضي أو يقضي حياته الغالية في مطاردة لا معنى لها لـ"جان فالجان" و"كوزيت"، فالأسهل أن يوصي الموظف بالقانون فوق الرحمة، ويرفع أسعار الغذاء ضعفًا ويسن الضرائب ضعفين والوقود لثلاثة أضعاف والطاقة لأربعة أضعاف والرسوم لخمسة أضعاف خلال أقل من عام.  أما الأصعب فهو الصبر والاستفادة من حِكَم أحسن القصص، كما نستصعب الوصول لهذا التطوير المستدام يستدعي العمل بروح الفريق والإيمان بالحوكمة والشفافية ونشر البيانات المفتوحة التي يتفاعل معها الناس وتغرس فيهم الثقة بأن الغاية واحدة والأهداف ذكيةً ومؤشرات الأداء عادلة ومنطقية.

لقد تعلمت أن الاعتراف بوجود التحديات الجسيمة هو أول خطوة سليمة نحو تخطيها بعزيمة وثبات. والملاحظ حالياً هو تواضع المتاح من بيانات مؤشرات الأداء الاقتصادية والصحية والاجتماعية والثقافية، ومعه تواضع جهود توعية المجتمع بالأدوار المطلوبة منه بناء على أهداف الرؤية ومؤشراتها الطموحة. فالرؤية بدون تحليل بيانات كالطريق بدون ألوان إشارات.

القرارات المبنية على البيانات

هذه دعوة لنا جميعًا- مواطنين ووافدين- للإيمان بأنَّ القادم أعوامٌ وليست سنينَ بإذن الله؛ ما دمنا نتبنى القرارات المنطقية المبنية على البيانات، وأن يد الله مع الجماعة وأنه مهما اشتكى عضو في المجتمع، إلا أننا كالجسد الواحد دائمًا وأبدًا. وذلك لأن القرارات المبنية على البيانات هي صمام الأمان وسبيل الوصول للحِكَم (Insights) التي تضمن لنا تراكم الثروة المعرفية التي تسهم في بناء اقتصاد المعرفة والعيش الكريم، والذي سيضمن لنا أجيالا حالية ومستقبلية تدعو لنا بالخير وهي مُطمئنة ومنتجة ومحققة لأحلامها المشروعة، وآمنة من أن تعيش مغلوبة ومستهلكة عالة على مجتمعات غالبة تعطيها تارة وتمنعها وتخدعها تارات.

يذكرني تغير الأعوام والسنين وتغير الأجهزة الإدارية ومسؤوليها من إخوتنا وأحبابنا بقصيدة ردي سلامي لبدر بن عبد المحسن غناها مطرب العرب الفنان محمد عبده، تقول:

سنين .. مرت وما أدري عن الأيام..

يقولوا: تغير الأحباب!

وأنا أقول: القمر ما غاب

من أول يوم تواعدنا

أتاري الوقت يخدعنا

ويبعد عننا الأحلام..