عبقرية ابن عُميرة

خالد بن الصافي الحريبي

khalidalharibi@gmail.com

 

 

لم يُبتعث إلى كندا، ولا يُحيط به حوالي 40 ألف استشاري واختصاصي وفني وإداري في 261 مُؤسسة بموازنة تُقدر بحوالي 600 مليون ريال عُماني، ومع ذلك يحتفي العالم دوريًا بإرثه الخالد إلى يومنا هذا بشهادة مُنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، التي يقع مقرها في العاصمة الفرنسية باريس منذ دورة المؤتمر العام الـ37 للمنظمة في العام 2013، فلماذا نتطلع اليوم كمجتمع لعالم مثل ابن عميرة؟ وما هي خارطة طريق الحاضنة الرستاقية التي تمكننا من الإبداع في إيصال العلم النافع للناس وعالمنا يتعافى من جائحة كورونا؟

عبقرية الحاضنة الرستاقية

في عالم اليوم المبني على الاقتصاد الرقمي والمعرفة تسعى كل الدول نحو استلهام أهم مُحرك في تحويل الرؤى إلى واقع؛ وهم شخصياتها العبقرية وعلمائها الذين يخشون ربهم ويُسهمون في بناء مدن ومُجتمعات ذكية، ويقول عنهم القرآن الكريم "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" (فاطر: 28). ولا يعتبر عالمنا اليوم طبيبًا وصيدلانيًا فحسب؛ بل وأديبًا وشاعرًا برع في أحد أهم أسباب العلم النافع التي تواجه مجتمعاتنا في عالم التعافي من الجائحة تحديًا في إتقانه؛ وهو الإبداع في التواصل وتوعية المُجتمع بأساليب متنوعة تبسط المفاهيم العلمية للناس وتوعيهم بأهم نعمتين مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ، كما جاء في الحديث الشريف.

هذا العالم الجليل الذي نفتخر به هو راشد بن عميرة بن ثاني بن خلف بن محمد بن عبدالله بن هاشم بن عبدالله العيني الرستاقي العُماني، المولود قرب منبع "عين الكسفة" الساخنة (حوالي 1510- 1610). ومن مؤلفاته التي تجلت عبقريته في تنويعها بين شعر ونثر: فاكهة ابن السبيل ومقاصد الدليل وبرهان السبيل ومنهاج المتعلمين وشروحات القصائد الدالية والرائعة والميمية، إضافة إلى أراجيز ورسائل ومخطوطات طبية ودوائية. والملفت في مثل هذه السير المُلهمة اليوم هو أن الحاضنة الحقيقية للعلم تبدأ من البيت والحي الذي يغرس نية طلب العلم السليمة في الإنسان؛ فابن عميرة لم يكتف بتلقي العلم من أبيه وجده العُلماء، وبالسفر إلى حواضر العلم آنذاك؛ بل استثمر علمه كمنصة نقلت تجاربه وعلومه لأبنائه وبقية تلاميذه. فعلى الرغم من أنَّ دول العالم الناشئة (المسماة سابقا بالدول النامية) تنفق المليارات سنويًا على أهم النعم وهما الصحة والتعليم، إلا أنَّ مجتمعاتنا لم تفلح بعد في الاستثمار في حاضنات ومسرِّعات تجذب العلماء وتصنع ثقافة تؤسس شركات ناشئة تنتج فرص رزق وأعمال وعمل تنفع الناس. والعامل المفصلي للفلاح بين موازناتنا للتعليم والصحة اليوم وبين الحاضنة العينية الرستاقية هو صلاح النية، فنية ابن عميرة ومعانيه وتلاميذه كانت الإسهام بعلم ينفع النَّاس بينما ثقافة مجتمعنا اليوم هي أنَّ الغاية من التعليم والابتعاث هي مؤشرات الشهادة والألقاب البرَّاقة التي تصحبها، وعلى الرغم من أهمية الشهادات العلمية واستحقاق الدارسين للألقاب فإنهم إن لم يستثمروا هذه النعم في الإبداع في التواصل وتوعية مُجتمعهم فما هي قيمة علمهم ورسالتهم في الحياة؟

 علماؤنا والعلم والمال والباقيات الصالحات

"إنَّ نموذج وادي السيليكون يُثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن العلم أولا وليس المال ومن العلم يأتي المال. والجامعات يجب أن تكون حاضنات وصادرات للأفكار وللأبحاث الناجحة فيما بعد. لقد أصبح المُستثمر ينتظر أي فكرة تخرج من هذه الجامعات لتمويلها منذ مهدها لتصبح مشروعًا يدر مليارات الدولارات. وقد بلغت أرباح الشركات التي انطلقت من مشاريع بحثية طلابية ما يُقارب 2.7 تريليون دولار ووفرت 5.4 مليون وظيفة"، كما جاء في مقال للدكتور أحمد بن سليمان بن فاضل الحراصي نشر مؤخرًا في جريدة عُمان يوضح فيه إمكانيات العقل البشري.

هذا يُذكرني بالعالم المفكر والدبلوماسي صادق جواد سليمان الذي انتقل إلى جوار ربه بعد حوالي 88 حولًا استثمرها في التواصل مع مُجتمعه أولًا ومع العالم. وتكمن عبقرية الأستاذ صادق- رحمه الله- في إبداعه بكل بساطة وود وتواضع في إيصال فكرة أن مكارم الأخلاق هي الأساس وهي الباقيات الصالحات في مجال الاستثمار في خير أمة أخرجت للناس ومن ثم يأتي العلم والمال. ولا زلت أذكر آخر نصيحة نصحني إياها في حوار عن كفاءات المُستقبل: "أرى أن الأساس هو بناء هوية أجيال المُستقبل على أساس مكارم الأخلاق والاستقامة؛ لأننا إذا أعنا النفس على الاستقامة استقامت حياة الإنسان".

ونحن نعيش اليوم بدايات عهد مُتجدد غاية رؤيتنا فيه "الإنسان المبدع" بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق- أيده الله- أدعو الله عزَّ وجلَّ أن تشهد استثماراتنا تطوراً جذريًا يحتضن الدارسين ويطورهم لعلماء مُلهمين كابن عميرة والأستاذ صادق جواد سليمان يبدعون في التَّواصل مع مجتمعهم والعالم وينفعون أنفسهم والناس.