يا راعيات الغنم

 

خالد بن الصافي الحريبي

كان يا ما كان في قديم الزمان في البلاد السعيدة راعيات غنم فاتنات العيون، يسرحن مع أولى نسمات الفجر المنعشة فوق الجبال الشامخات، وذات فجر.. هام بحب إحداهن راعي غنم رقيق القلب عذب اللسان فخلد أسلوب حياتهن وجمالهن في قصيدة مغناة اسمها "يا راعيات الغنم".

عاشت القصة وقصيدتها لقرون ووصلت إلينا في الثمانينات عبر "الثلاثة الكوكباني" وهم ثلاثة إخوة فنانين أثروا الفن التراثي العالمي بحوالي 1300 قصيدة مغناة تراثية ووطنية. وبلغت شعبيتهم أيام طفولتي أنه كان يطلق على أي ثلاثة أصدقاء أو صديقات يستمتعون برفقة بعضهم البعض لقب الثلاثة الكوكباني. ولله الحمد، ننعم في هذه الأيام بالطبيعة الخلابة التي تحيط بنا من مسندم إلى ظفار ونشاهد الحياة البسيطة لراعيات ورعاة الأغنام. فهل هناك أي أفكار اجتماعية أو اقتصادية أو أخلاقية يمكن أن نستفيد بها من خلال التأمل في أسلوب حياة راعية الغنم؟

الحياة البسيطة

كلما تقدم الإنسان في العمر كلما أدرك قدر البساطة في كل شيء، وحقيقة أن رعاة الغنم يمارسون مهنتهم ليس فقط كمصدر رزق؛ بل كأسلوب حياة اليوم، دليل على أن الحياة البسيطة هي حياة مُستدامة موازية لكل التقدم التكنولوجي والثورات الصناعية التي تشهدها الإنسانية. كما إن أحد أهم التأملات في هذه المهنة النبيلة تعلمنا أن الحضارة تبنيها دائما المجتمعات التي تشترك فيها المرأة مع الرجل في الاستفادة من كل ما ينفعنا في هذا الكون. يقول عز من قائل: "مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب" (غافر: 40).

ويذهب أحد أهم علماء الحضارات والأديان المعاصرين في العالم الأستاذ الدكتور خزعل الماجدي، ابن بلاد الرافدين ومهد الحضارات، إلى أن أحد أهم عناصر الحضارة هي التقدير المتبادل والإسهام المشترك للمرأة مع الرجل في تقدم الإنسانية ككل، وأن أفضل الحضارات، ومنها حضارتنا المهيضة كان أحد أسبابه المباشرة هو ضعف هذا التقدير المتبادل والإسهام المشترك، والإسراف في جدل عقيم عن الأدوار ما أنزل الله به من سلطان يحرمنا قبل الإنسانية الاستثمار في علاقة سوية بين جناحيها.

حب الجمال

إننا في حاجة ماسة اليوم لتشجيع مؤسساتنا على التفكير في ممارسة رعي الغنم ولو ليوم واحد سنويًا، وسيخبرك أي قيادي أن أي مؤسسة ثقافتها لا تغرس في فريقها مكارم الأخلاق لا يعول عليها. رعاية الغنم ليست مهنة خالدة فقط؛ بل هي مدرسة للقادة وفرقهم في مكارم الأخلاق، وإلا لما كانت مهنة الأنبياء والصالحين.. فالراعي لا يرعَ وحده؛ بل في مجموعة بروح الفريق لضمان سلامة الرعية. كما إن الراعي اقتصادي، لا يسرف في الرعي؛ لأن الإسراف في الرعي جورٌ يضر بالراعي ورعايته أولًا ولا يضمن له ما يرعاه غدًا. والرعي يعلم الصبر على فهم فكر وسلوك الرعية، وقوة العزيمة؛ لأن الراعي لا يبرح حتى يبلغ رعيته مبتغاهم من مأكل ومشرب وترويح قلوب. وبالنسبة لي، فحسب أن يكسب الإنسان من الرعي حب الجمال؛ لأن الرعي في الطبيعة يفتح بصر وبصيرة الإنسان ليقدر كل ما تقع عليه عينه أو يحسه بروحه من تنوع الألوان الباهية والأشكال المثيرة، والمعاني العميقة والمنافع المفيدة والأحجام الصغيرة والكبيرة، ومن يرزق حب الجمال يرى الوجود جميلا وهي من أهم الميزات التي تعيننا على تجاوز التحديات والجوائح والتقدم للمستقبل بثقة، فتبارك الله أحسن الخالقين.

الطيور المبكرة

يقول مثل عالمي "الطيور المبكرة تسبق إلى الرزق"، وهذا ينطبق علينا والعالم يتعافى من الجائحة. فستلاحظ أن الراعيات يسرحن مبكرًا في أولى ساعات الفجر؛ لأنها الأنسب للكسب لهن ولأغنامهن. كما إنهن يكتسبن يوميًا ثروة معرفية بالتجربة عن أنسب السُبل وأفضل الممارسات وأفيد النباتات، وأسلم الأوقات التي تضمن لهن الرزق عبر التأمل والتدبر والتفكر في الطبيعة، والتفاعل اليوم بينهن وبين رعيتهن وكل مكونات الطبيعة الخلابة. وهذا ينطبق اليوم على المجتمعات التي استثمرت أولى موجات الجائحة للبحث والتطوير والتسويق لإمكانياتها ليس في الصناعات الصحية والدوائية فقط؛ بل أيضًا في الصناعات الإبداعية ذات الصلة بالقصص الإنسانية ذات الصلة بالجائحة. ففي الصناعات الصحية والدوائية، وبالأخص في التكنولوجيا الصحية الواعدة "HealthTech"، ولنا في اللقاحات الألمانية والبريطانية والأمريكية والصينية والكوبية والإيرانية وغيرها. فالعامل المشترك بين هذه المجتمعات أنها آمنت بطبيعتها البسيطة وتأملت في كل مواردها واستثمرت في مواردها الإنسانية لتحويل طبيعتها المستدامة لمورد لا ينضب من الفرص النافعة للناس. بينما المجتمعات التي تركن إلى عقلية الاستثمارات غير المستدامة حتى في الجانب الصحي فإنها تفوِّت على أجيالها فرصة أن تكون في مصاف الدول المتقدمة، في مجال التكنولوجيا الصحية. وقد يكون أهم إسهام اقتصادي لقصتنا اليوم هو إعادة الاعتبار للاقتصاد الإبداعي أو البرتقالي "Creative Economy" أو كل ما ينتجه الإنسان فكريًا في الفن والأدب والبرمجيات، والذي- على سبيل المثال- يسهم بنسبة 7% في الناتج المحلي الإجمالي للملكة المتحدة. ولقد وجهت العديد من الاقتصادات المتقدمة استثماراتها لتوثيق هذه الفترة التاريخية التي نعيشها في مؤلفات فنية وأدبية وبرمجيات نطورها وستبقى لعصور مقبلة شاهدة على حسن تدبير المجتمعات التي تحسن إطلاق إبداعات الإنسان. ولا أدل على استدامة إبداع الإنسان لعصور كقصتنا التراثية التي تعيشنا بين راعيات الغنم، وبساطتهن وجمالهن وسعيهن للرزق، تقول القصيدة:

يا راعيات الغنم فوق الجبال // عندي لمحبوب قلبي ذكريات

الشمس فوق السواقي والجبال //  والطل بين الخمائل والنبات

يا ريتني يوم بحصل مكان// أعيش بين الرواعي الفاتنات

بالله يا راعية ذات الجمال // خليني أرعى معزكم والشياه

لا تسلبي الروح بالله يا غزال // قلبي قتيل العيون الساحرات

أذكر زمان المحبة والهوى // فوق الروابي تهيم الحالية (الحلوة)

أذكر يا يوم حين كنا عيال // نقطف من الورد لي في الرابيات