مرهون "ومرقة العظام"

 

 

عبدالله الفارسي

(هذه قصة من خيالي الخصب ربما قد تتطابق تماما مع الواقع بكل تفاصيلها بمحض الصدفة لا غير).

-----

خرج الشايب مرهون من باب بيته بعد أن تأكد واطمأن بأن في جيبه ريالاً ومائة بيسة، فجأة رجع، تذكر ثلاجته المطفأة منذ أربعة أيام، لقد أطفأها؛ لأن ليس فيها شيء يستحق التبريد. كانت خالية خاوية على عروشها كخيمة بدوي رحل عنها وتركها للغبار والريح.

رجع الشايب مرهون ليشغل ثلاجته؛ لأنَّ هناك مشروع لملئها هذا النهار، فتح زر التشغيل، فبدأت تئن وتحن وتهتز وتئز، فتحها ليتأكد من نظافتها، فوجد في داخلها حبة طماطم فاسدة وخيار وحيد ميت منذ أسبوع ورائحة كريهة. رمى مرهون الخيار والطماطم الفاسدة في كيس القمامة الفارغ منذ أيام، وترك الرائحة تذوب وتتلاشى بنفسها، حتى كيس القمامة في بيت الشايب مرهون غالباً يكون خالياً خاوياً جائعاً يشتهي القمامة ولا يحصل عليها!

قالت له زوجته: لا تنسى يا مرهون أن تذهب إلى عمران "الضخم"، أحضر لنا بعض العظام الدسمة، وعرّج على الطيب بشير ليملأ لك كيسا من خضاره العفنة. قال لها: لن أنساهما، منذ يومين وأنا أحلم بهما. الشايب مرهون يُعاني من إعاقة دائمة في قدمه اليسرى وُلد بها، فكانوا يطلقون عليه مرهون الأعرج، ولكنه كان ينفي ذلك أمام زوجته فيقول لها مداعباً: (كنت لا أرغب في الخروج من رحم أمي، ولكن القابلة اللعينة أدخلت يدها وقبضت على قدمي اليسرى بكل شراسة وسحبتني كتمساح ميت).

الغريب والعجيب أن مرهون الأعرج كان أقومهم أخلاقاً وأشرفهم وأكثرهم نزاهة، لكنهم يطلقون عليه الأعرج؛ لأنه ولد بقدم مُصابة، هكذا دائماً المجتمعات العرجاء، تسقط صفاتها وعيوبها وتلصقها في الآخرين.

يقال إنه ذات شتاء بعيد عثر على محفظة مليئة بالمال، واحتفظ بها خمسة أشهر يبحث عن صاحبها، حتى عثر عليه، وطوال تلك الفترة لم يفتح المحفظة ولم يأخذ منها فلساً رغم فقره وبؤسه وعوزه. فأعطاه صاحب المحفظة نصف ما فيها من مال جزاء أمانته. وفي السنة الفائتة عثرَ مرهون على قلادة ذهبية ثمينة، واحتفظ بها مع زوجته، وأخذ يبحث عن صاحبتها شهراً كاملاً حتى عثر عليها، وأعاد لها قلادتها، فقبلته في رأسه باكية قائلة: لا أصدق أن هناك رجلاً فقيراً يعثر على ذهب ولا يبيعه.

فقال لها: المال الحرام لايدخل بيتي ولا يجري في عروق أطفالي.

خرج مرهون من بيته سالكاً طريقاً طويلاً وشاقاً إلى سوق اللحم والخضار، في منتصف الطريق نبحته مجموعة من الكلاب نباحاً خفيفاً، فعرف مرهون سبب نباحها، فصرخ لها بصوت عالٍ: ولا يهمك سأحسب لك حسابا من العظام انتظري ساعة من الزمن، فسكتت من فورها وحركت أذنابها.

رآه أحد الرجال الذين يعرفونه فقال له: أحذر من هذه الكلاب يا مرهون، فقال له مرهون: هذه الحيوانات المسكينة لا خوف منها، الخوف كل الخوف من الحيوانات البشرية، هي من تستوجب الحيطة وتتطلب الحذر!

وصل مرهون إلى سوق اللحم والخضار في منتصف النهار. جلس على دكة أحد المحلات يُراقب الناس الذين يدخلون محل عمران الباكستاني لبيع اللحم ويخرجون بأكياس ممتلئة باللحم والشحم، كان ينتظر أن يخرج الجميع من محل عمران الضخم. يطلقون عليه عمران "الضخم"؛ لأنه أضخم باكستاني في السوق، حجمه هائل كفيلٍ آسيوي منقرض، لكنه طيب جيداً ويحمل قلباً رقيقاً كقلب عصفور "الزيبرا" الفريد.

كان مرهون يستحي من الدخول للمحل حتى لا يراه الرجال وهو يطلب بقايا العظام من عمران.

بعد ساعتين من الجلوس والانتظار رفع مرهون مؤخرته المتيبسة، ومد قدميه راخياً عضلاتها المتجمدة، ثم أطلق قدميه باتجاه محل "عمران الضخم" بعد أن تأكد بأن المحل أصبح خاليا من الزبائن وأن سلة قمامة المحل قد امتلأت بمخلفات اللحم والعظام.

سلم مرهون على صديقه عمران الباكستاني، كان الباكستاني يعرفه جيدا، فسأله: وين أنت "يا شيك" مرهون ما فيه شوف من عشرة يوم وين فيه روح؟ (أين أنت يا شيخ مرهون عشرة أيام لم أرك أين اختفيت؟).

فقال مرهون: بيتنا بعيد يا عمران، ولا أستطيع القدوم كل يوم، قدمي تؤلمني والناس تصدني.

سحب عمران كيساً وأخذ يجمع له أفضل العظام والغضاريف وفتات اللحم من صندوق القمامة، فامتلأ الكيس، وفرح مرهون بحجم الكيس ووزنه، وقال سعيدا لصديقه الباكستاني "هذه المرة العظام فيها لحم وفير يا عمران"، لكن زدني بعضا من العظام لأصدقائنا الكلاب.

فملأ له عمران كيسا صغيرا آخر، فشكره مرهون شكرا عظيما يليق بحجمه الكبير وطوله الفارع.

ثم مد له بنصف ريال مقابل تلك العظام وما فيها، فرفض عمران الضخم أخذه، قائلاً له: "استغفر الله يا شيك مرهون هازا "عزام" كالي". ( استغفر الله ياشيخ مرهون هذه مجرد عظام خالية).

شكر مرهون عمران الضخم مرة أخرى، وحضنه قائلاً له: أنت الوحيد من يستحق الاحتضان في هذه المدينة الميتة يا عمران. وخرج مرهون باسم الوجه طلق المحيا.

وهو خارج من المحل رأى قطة صغيرة تأكل قطعة لحم كبيرة، فانحنى الشايب مرهون وسحب القطعة من فمها، وقال لها: أعذريني أيتها القطة، أطفالي أحق بهذه القطعة، لا تغضبي مني أرجوك فأسنانك ما زالت صغيرة على اللحم.

دس قطعة اللحم في الكيس وانطلق مسروراً بها، وحتى لا يظلمها أخرج لها قطعة من اللحم المفتت الذي التقطه عمران من قاع سلة قمامته الضخمة. لم تقتنع القطة بالفتات ولم يعجبها تصرف الشايب مرهون. فأخذت تلاحقه بعينيها الخضراوين وهما تقدحان غضبا وحقدا وربما كانت تلعنه سرا وجهرا.. ولو كانت تملك أظافر عظيمة وأنياباً طويلة لتحول مرهون إلى قطعة من اللحم المفروم!!

توجه مرهون إلى محل بشير للخضروات، حين رآه بشير قادماً من بعيد، طلب من عامله أن يعبىء له كيسا من خضروات الدرجة الثالثة، وهي خضروات نصف متعفنة، والتي غالبا يطلبها أصحاب الأغنام لأغنامهم. ملأ له بشير كيسا كبيرا كعادته في كل مرة.

ابتهج مرهون بكيس الخضار نصف المتعفن، وقال لبشير: هذه المرة الخضار رائع يا بشير متعفن من الأطراف فقط وأم الأولاد ستبتهج به وتنقحه، وتجعل منها خضاراً طازجا من الدرجة الأولى، كذلك الذي يأكله أبناء الوالي وأصدقاؤه وأولاد الشيخ وأحفاده.

فقال له بشير: تعال يا مرهون كل يوم شيل "خوزار" ما فيه مشكل أبداً أنت نفر واجد مزبوط وواجد مسكين". (تعال كل يوم يا مرهون وخذ كفايتك من الخضار أنت رجل محترم وفقير).

فأخرج مرهون نصف الريال السابق لبشير فرفض بشير كعادته أن يأخذ منه بيسة واحدة. فشكر له طيبته وكرمه النادر، وقال له: تعال احضنك يا بشير أنت أيضاً من يستحق الاحتضان في هذا المجتمع البائس.

ثم انطلق مرهون سعيداً بهيجاً بكيسي الخضار والعظام، وصل إلى المخبز الواقع على طرف السوق، طلب كالعادة من البائع 10 أكياس من خبز البارحة المسترجع من المحلات، عشرة أكياس يشتريها عادة من صاحب المخبز بثلاثمائة بيسة، أخذها، وانطلق مرهون إلى بيته مسرورا.

انطلق يُصفر ويغني تغمره سعادة واسعة، منتشياً ببهجة عارمة؛ عظام وخضار، وخبز، يالها من نعمة محروم منها كثير من المخلوقات، وقف الشايب مرهون يحسب ما بقي في جيبه، ثمانمائة بيسة، إنها للطوارىء التي قد تقرع بابه في أية لحظة حتى ينزل راتب الضمان الاجتماعي بعد تسعة أيام.

مشى مرهون سالكاً طريقه المعتاد، استقبلته نفس الكلاب بنباح جميل؛ وكأنها تشكره على ما أحضره لها، فأخرج لها العظام ووضعها لها على الأرض فهدأت وسكتت وابتهجت.

ابتسم مرهون وقال لها: "يا لك من كلاب تعيسة تعيشين مثلي في هذه المدينة التعيسة".

واصل طريقه الطويل وهو يتمتم: الحمدلله اللهم أدم علينا نعمتك وامنحنا صبرك ولتمضي مشيئتك.

وصل باب بيته ففرح الأطفال بالأكياس وهي تتدلى من يد والدهم، فتراكضوا إليها، كلٌ حمل كيسا.

قال لهم الوالد بصوت صحيح معافى: اليوم سنتغدى بفتة اللحم العجيبة. هللت الأم وزغردت بقدوم الأكياس، فأخذت كيس العظام تنتقي منه أكثرها لحماً وأوفرها دسماً ونخاعا.

ثم تناولت كيس الخضار وأخذت تختار منه أنظفها وأقلها عفنا، وضعت طنجرتها على النار، ورصت العظام في الماء، وبعد دقائق صبت عليها الخضار والملح والبهار، حتى نضجت واستوت وأحمرت وصار منظرها مسيلا للعاب.

فتحت ثلاثة أكياس من الخبز وفتتته في بطن الحساء، فخالط الماء الدسم وامتزج القمح بالعظام، وأكتسى لونه إحمراراً وفاحت نكهة البهار والنخاع وسال اللعاب في أرجاء البيت، أصبحت الفتة جاهزة للأكل.

صبت الأم فتة العظام في صحنها العريض، واجتمع الأطفال ووالدهم حول طعامهم اللذيذ.

امتدت الأيادي تنهش الثريد وبدأت الأفواه تمصمص العظام وتلحس الأصابع، متلذذة بمرقة العظام وروعة الخضار ولسعة البهار. أكلوا حتى شبعوا، وشبعت أصابعهم من اللحس والقضم والمصاص.

وكالعادة بعد كل وجبة مرقة عظام دسمة مع الخضار رفع الشايب مرهون وزوجته وأطفاله أياديهم إلى السماء، وقالوا بصوت كنائسي جنائزي موحد رقيق: اللهم بارك لنا في "عمران الضخم" الكريم، وأحفظ لنا "بشير" الطيب الرحيم!!