نظارتي الشمسية المُعتمة

 

عبدالله الفارسي

 

"ما أسعد أولئك الذين لا يملكون شيئًا يستحق أن يوصدوا عليه أبوابهم بالأقفال" فيودور دوستويفسكي.

 

******

وأنا مزهو ببقايا فتات راتبي.. متعجرف بدشداشتي "العبيدانية" الجديدة.. مغرور بنظارتي الشمسية المعتمة والتي لا تفارق عيني بسبب حساسيتها من رؤية الواقع البائس الذي يُحيط بها، تجولتُ في الهايبرماركت الكبير بذاكرة هزيلة متشققة أسعفتني لشراء نصف ما طُلب مني شراؤه ونسيتُ الباقي والأهم والأكثر.

..

حملت سلتي الصغيرة ووقفت منتظرًا دوري أمام طاولة المحاسب.

لفت نظري كالعادة منظر مثير.. فأنا للأسف أملك نظرًا مرهفًا وعجيبًا؛ لذلك أحاول أن أرتدي نظارة شمسية مُعتمة تجنبًا لرؤية هذه المناظر، لكن للأسف لم تؤدِ النظارة المعتمة دورها ووظيفتها الحقيقية في تلك اللحظة.

نظرت أمامي وفوجئت برجل بسيط الحال في أواخر الخمسينات من عمره تزحف أيامه لاهثة إلى أشواك الستين.. كسا البياض شعره وافترست التجاعيد جبهته. كان يُخرج مشترياته من سلته الكبيرة واضعًا على طاولة المحاسب مجموعة كبيرة من المعلبات الملصق عليها لاصق أصفر كتب عليه "عرض خاص".

فلم أتمكن من منع فضولي من الإمساك ببعض تلك المعلبات وكانت عبارة عن علب تونة ومعلبات لمواد غذائية أخرى.

خلعت نظارتي المعتمة وتفحصت المعلبات ونظرت للسعر.. كان السعر مغريًا جدًا: (4 علب تونة "قطعة متماسكة" بريال واحد).. ثم تحققت من تاريخ انتهاء الصلاحية فوجدته على بعد 36 يومًا من الانتهاء.

يعني باقي شهر وعدة أيام فقط على انتهاء صلاحية المنتج.

فلم أندهش ولم أتعجب..لأنني بصراحة وصلت إلى مرحلة عقلية مذهلة أصبحت لا أندهش ولا أتعجب ولا أشعر بشيء مطلقًا..

باختصار أصبحت بليدَ الإحساس جامدَ المشاعر معتمَ الوجدان كنظارتي المعتمة!!

وأجمل وأروع ما في حياتنا وواقعنا أنه كلما تقدمت في السن وعرفت الناس وخبرت الحياة انكسر قلبك وتهشم فؤادك وأصبح وجدانك هشيمًا وروحك حطامًا!!

لذلك لحقت بالرجل الذي هرول سعيدًا بأكياس مُعلباته التي على وشك انتهاء صلاحيتها.

ووقفت بجانبه وسلمت عليه سلام العرب وتطفلت عليه تطفل الأعراب وهو يدخل أكياسه في صندوق سيارته وقلت له: هل نظرت إلى تاريخ الانتهاء؟

فتبسم الرجل، وقال: طبعًا رأيته وأعرف تاريخ الانتهاء جيدًا.

أنا أساسًا لا أشتري إلا هذه المنتجات التي على وشك الانتهاء وأطارد مثل هذه العروض.

فكما تعلم أسوأ نوعية من التونة قيمة العلبة الواحدة 800 بيسة، وهذه نوعية جيدة، قيمة 4 علب منها بريال واحد.. إنها فرصة ذهبية لأمثالي. فعلبتان منها تكفينا لوجبة الغداء حتى التخمة.

وعندي ولله الحمد زوجة رائعة ماهرة تتفنن في طبخ المنتجات منتهية الصلاحية وتخرجها لنا كأنها طازجة تمامًا.. كما إننا نحفظها في الثلاجة فتحتفظ بصلاحيتها أيامًا وشهورًا.

فقلت له: ولكنك تغامر بصحتك وصحة أسرتك!!

فتنهّد وقال: أخي العزيز أرجوك لا تقلب مواجعي ولا تبعثر فرحتي بهذه العروض الشرائية السخية. هذه العروض يتقاتل عليها المئات من أمثالي. أنظر خلفك.. وسترى العشرات يتكالبون عليها. وخلال أسبوع فقط ستختفي هذه المعلبات من هذا المحل ولن تجدها.

أخي: أنا متقاعد وراتبي 230 ريالًا، وعندي ستة من الأبناء.. نحن ثمانية بطون داخل منزل مُتهالك... لا أستطيع شراء كيلو سمك الجيدر بريالين أو كيلو سمك الكوفر بريالين ونصف الريال.

التونة تفي بالغرض تمامًا؛ فهي تجمع بين طعم الكوفر اللذيذ ونكهة الجيدر الرائعة..

المهم هو أن نأكل ونعيش ونبقى على قيد الحياة.. والباقي على الله.

ثم استأنف.

أخي: أنا لولا هذه العروض السخية ولولا محل الخضار الذي يحجز لي الخضار نصف التالف أظن أنني لن أصمد أنا وعائلتي حتى اليوم..

ورفع يده للسماء قائلًا: الحمدلله على هذا الحال وكل حال، والشكر والثناء لمحلات البقالة التي تعرض لنا بين الحين والآخر معلبات على وشك الانتهاء لتمنحنا تاريخًا جديدًا وتمديدًا لحياتنا.

وقبل أن يركب سيارته المتهالكة قال لي اقترب فاقتربت منه.. فهمس في أذني وقال: "أعتقد أن الله قد زودنا بجهاز هضمي مقاوم للأطعمة الرديئة والفاسدة وهذه نعمة محروم منها كثير من الناس!!

ثم شكرني شكرًا لطيفًا ومهذبًا وودعني بابتسامة صاخبة كابتسامة المنتصر، ثم أعقبها بتنهيدة صارخة كتنهيدة المحتضر.. ورحل.

...

أخرسني الرجل وأجبرني على الوقوف والتسمُّر لدقائق كقطعة خشب متينة وعريضة مغروسة في مواقف السيارات.

بعد لحظات خلعت نظارتي المعتمة لأمسح عنها كمية الدخان الذي أفرغته سيارته في وجهي..

نفخت على نظارتي المعتمة ومسحتها بكم دشداشتي "العبيدانية" الرائعة حتى لمعت، فوضعتها على أرنبة أنفي الجميل وواصلت طريقي المعتم ودربي الشاق الطويل!!