النجمات الثلاث

 

عبدالله الفارسي

 

"يمكن لأي أحمق في هذا العالم أن يقتل أحلام الآخرين بمجرد أن يملك ثلاثة أشياء: الحسد والغباء والسلطة" تشارلز بوكفسكي.

 

****

عندما كنت شابًا صغيرًا وجميلًا ونشيطًا، تم تعييني في مدرسة بعيدة جدًا تبعد عن مكان سكني 47 كيلومترًا. كنتُ قمة في النشاط شعلة من الحماس، وكان الوطن يتأجج في داخلي تأجج بركان ثائر لا يخمد. وكان الشعور الإيجابي والحب والتفاؤل في أعلى درجاته وأرفع مستوياته.

وتم تكليفي بتدريس الصف الأول وهو الصف الذي يرفض الجميع تدريسه لصعوبته البالغة خاصة في القرى البعيدة. قررت الاضطلاع بالمسؤولية ومواجهة الصعوبة وقبول التحدي وتدريس الصف الأول الابتدائي. كانت بداية صعبة جدًا جدًا.

أطفال صغار يضعون خطواتهم الأولى في ساحة المدرسة، عقولهم صفحة بيضاء لا يعرفون شيئًا أبدًا. لا يعرفون كيف يكتبون؛ بل كان ثلاثة أرباعهم لا يعرفون كيف يمسكون القلم.

قضيتُ معهم أكثر من شهر في تعليمهم طريقة الإمساك بالقلم بطريقة صحيحة. ثم كيفية كتابة الحروف، ومع التشجيع والتعزيز والتصفيق تجاوز كل الأطفال مرحلة الخوف من المدرسة والقلق من التعليم والخوف من عصا المُعلم وصوته واستئناس القلم وحب المدرسة ومصادقة الكتاب.

***

كنتُ في غاية السعادة، فقد استطعت تجاوز الصعوبة الكؤود مع أطفالي، وبدأ أطفالي ينطلقون في التعلم والحفظ والكتابة بسلاسة.

وذات نهار زارنا مسؤول تربوي رفيع، لا أعلم كيف تم تكليفه بهذه المسؤولية، ولا أعلم كيف يتم اختيار مثل هؤلاء البشر لقيادة دفة سفينة التربية والتعليم الخطيرة والحساسة. قام المسؤول التربوي بجولة داخل المدرسة وزيارة الفصول، وكان يتجول رافعًا رأسه كزرافة أفريقية ويتبختر بين الفصول كطاؤوس أسترالي. دخل معي في الصف، سلّم سلامًا فاترًا ونظر اليّ بازدراء ورمق طلابي بترفع. ثم أخذ يتجول بين الطلاب يقلب دفاترهم ويتفحص كتبهم ويتشمم روائحهم ككلب بوليسي. كنت مُنهمكًا في الدرس، كنت أعلمهم كتابة كلمة "غرور"، وأسألهم: كم حرفاً فيها؟

فجأة رأيت المسؤول التربوي العظيم يململ رأسه، ويمط شفتيه، ثم قال لي بصوت فج مزعج: ما هذا يا أستاذ؟

فقلت له: خيرا أيها المسؤول الكبير العظيم؟

فقال لي: كيف تضع ثلاث نجمات لهذا الطالب الغبي؟

كنَّا في السابق نضع نجمة حمراء جميلة لكل طالب يكتب كتابة صحيحة أو يجيب على سؤال أو يحل واجبًا.

كانت النجمات الحمراء هي المعزز الوحيد لرفع معنويات الطلاب وزيادة حماسهم. كانت تلك النجمات هي هدايانا الثمينة لتلاميذنا.

قال لي: هذا التلميد الغبي كتابته خاطئة فكيف تعطيه ثلاث نجمات حمراء؟

فقلت له: أرجوك لا تنعت الطفل بالغباء.. واحترم المكان الذي أنت فيه أيها المسؤول العظيم.

فقال لي رافعًا عقيرته: إذن ماذا تفسر هذه الأخطاء الكارثية في الكتابة؟

***

كان جزءٌ من كلامه صحيحًا، فقد كان التلميد يعاني من صعوبة شديدة في التعلم، وكنت أشجّعه بالنجمات الحمراء؛ ليواصل المجيء للمدرسة، وكنت أحيانًا أكافئه بقطع من الشكولاته حتى لا يهرب أو ينقطع عن الدراسة.

أوضحت للمسؤول التربوي أنَّ هذا التلميذ يعاني من خوف من المدرسة ومن صعوبات تعلم شديدة ويحتاج إلى التشجيع والتحفيز والصبر والمثابرة؛ فاعترض المسؤول التربوي الكبير وزأر وزمجر وقال: هذا خطأ فادح يا أستاذ.

***

كتب المسؤول التربوي الكبير تقريرًا سيئًا جدًا ملطخًا بالسواد عن زيارته للمدرسة يتقدم التقرير اسمي في أول قائمة المعلمين الذين يحتاجون إلى المتابعة والمراقبة والفحص والردع والزجر والتدقيق!

لم أكترت كثيرًا بملاحظات ذلك المسؤول غير التربوي كما رأيته، فما أكثرهم معنا وبيننا وحولنا، ومضيت قدمًا في طريقتي وأسلوبي في التعامل مع تلاميذي، ومع ذلك التلميذ الصغير الفقير المسكين.

انتهت الأعوام وركضت السنين، وكبر التلاميذ ولم ينسوا تلك النجوم الحمراء التي كنت أضعها في دفاترهم والتي حفزتهم ورفعت معنوياتهم وعلقت قلوبهم بالمدرسة وتجاوزوا بها خوفهم وقلقهم وتوترهم من المدرسة.

***

منذ سنتين أو أقل التقيت بذلك الطالب، الذي وبخني ذلك المسؤول التربوي الكبير بسبب تلك النجمات الحمراء الثلاث التي رسمتها له في دفتره الصغير. التقيت به ذات نهار مشمس في أحد مراكز الشرطة، سمعت صوتًا يناديني من قرب بكل عذوبة وجمال "أستاذ عبدالله"! فالتفتُ إلى الصوت فرأيتُ وجهًا بشوشًا باسمًا كأنه القمر، وجاء يصافحني بكل أدب ثم عانقني بكل عذوبة ودفء.

قال لي: ألم تعرفني أستاذي؟ فقلت له: لا والله، فذاكرتي مهلهلة وممزقة وتخونني كثيرًا هذه الأيام.

فقال لي: أنا ابنك التلميذ فلان الفلاني، لقد درستني في الصف الأول الإبتدائي في العام 1992. حاولت أن اتذكر المدرسة في العام 1992. ولم أتمكن من تذكر شيء سوى صوت ذلك المسؤول واحتجاجه على تلك النجمات الثلاث التي أعطيتها لذلك التلميذ، والذي يقف أمامي الآن ضابطًا رفيعًا مُؤدبًا مُحترمًا خلوقًا متواضعًا يحمل على كتفه ثلاث نجمات بيضاء بياض الثلوج لامعة لمعان الكواكب.