يوميات مدعي (1)

 

فوزي عمار

ولد في قرية ليبية نائية، بعيدا عن العاصمة، انضمَّ مُبكرا لحركة اللجان الثورية؛ نظرا لظروفه المادية الصعبة، والتي وصلت أحيانا إلى عدم القُدرة على إيجاد ما يأكل؛ فكان يلجأ إلى الإقامة في المعسكرات التي تُقِيمها براعم وأشبال وسواعد الفاتح، ونظراً لتعليمه المتوسِّط رغم ذكائه الفطري الحاد، لم يكن يعرف أيَّ شيء عن الفكر السياسي، كان يحفظ عن ظهر قلب ويردد كل ما يقال له من نقاشات وخطب نارية ومصطلحات قوية وأكليشيهات رنانة جاهزة مثل: "الرجعية، الإمبريالية، المندسين، اليمين المتعفن، حتمية الوحدة العربية، المنعطف الاشتراكي الأخير والعامل القومي المحرك للتاريخ..."، دون أن يشغل نفسه بالتفكير في معانيها.

كان يمتاز بالشخصية الكارزمية والصوت الجهوري؛ فقد كان آخر من يسكت عند الهتاف. ملابسه رثة ويرتدي حذاء (شبشب الصبع) البلاستك، والبدلة العربية بدون مكوى، ومعاطف (كبابيط) شركة التسويق المحلي ذات الألوان الباهتة.

بعد فترة من الإعداد في هذه المعسكرات، اكتشف أن له قلما جميلا فانتقل من قريته إلى طرابلس، وبدأ يكتب في جريدة الزحف الأخضر المعروفة، وبعد أن وجد نفسه مُحاطاً بالمسؤولين في الندوات والمؤتمرات والمسيرات، صمَّم الاستفادة من هذه الوضعية من خلال النصب والاحتيال على كل من يلتقي به في أول فرصة.

قرَّر يوماً ذات صيف الذهاب إلى مجمع الحديد والصلب بمصراتة، ركب تاكسي السبع ركاب من محطة الركاب في شارع الرشيد، وفي الطريق الطويل والسيارة بدون تكييف كان يتسلي بقراءة اللافتات التي تملأ جانبي الطريق بمقولات من الكتاب الأخضر. قرأ لافتة من اللافتات مكتوبا عليها: "الرياضة نشاط عام ينبغي أن يُمارس لا أن يُتفرج عليه".

وصل للمصنع وطلب الدخول إلى المدير العام الذي عرفه من اسمه في المقالات النارية في الزحف الأخضر، وجد المدير العام يضع آية قرآنية خلفه مكتوبا عليها: "الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس"، بعد أن سلّم بدأ الحديث بشرح للآية قال: "بأس شديد للعاملين في المصنع، ومنافع للناس السماسرة في الخارج".

أُعجِب المدير بهذا الشرح الجميل للآية الذي يسمعه للمرة الأولى، عرف بذكائه أن المدير مرتاح واللحظة مواتية للحديث عمَّا جاء من أجله، تقدم بطلبه مباشرة للمدير مصحوبًا بأوراق شركته التجارية (المزورة) للحصول على كمية من حديد التسليح المطلوب في السوق، والذي يصل فرق السعر فيه بين المصنع والسوق السوداء قرابة ضعف الثمن تقريبا.

قرأ المدير العام الطلب وتفحص الأوراق، فإذا به هو شخصيًّا صاحب الشركة... استغرب المدير العام من أن يتحول هذا الثوري المعروف إلى تاجر في زمن تُحرم فيه الدولة التجارة للخواص وتحتكر العمل التجاري، فسأله عن القصة، تململ قليلاً وفجأة وكأنه تذكر شيئًا مهما، فقال: آه.. نعم... كنت قد كتبت مقالا عنوانه "البيزنس نشاط عام يجب أن يمارس لا أن يتفرج عليه". وعندما اطلع القائد على المقالة قال: لماذا لا تمارسه؟ فقلت للحضور هذه تعليمات، وأسست هذه الشركة. أعجب المدير العام مرة أخرى بالقصة المُختَلَقة وصدقها، ووقع على الطلب بالموافقة.

خرج مزهوًّا بعد أن نجح في اختلاق القصة بهذه السرعة، ومنذ هذه اللحظة تعوَّد روايتها في كل عملية نصب جديدة يقوم بها مستفيداً من اسمه المعروف في الحركة.

وبعد النجاح تلو النجاح في عمليات النصب، بدا الفرق كبيرا وواضحا في نوعية الملابس التي بدأ يلبسها، فأصبح من روَّاد الشاموا وبيير كاردان وفرساتشي ومعظم الماركات العالمية من ملابس وأحذية وعطور، وصارت تزين معصمه ساعة الرولكس، وبدأ يركب الأودي ويمتطي صهوة التويوتا ستيشن، ويمتلك الفيلا والمزرعة. وأضحي من عِلية القوم، يلجأ له الناس لحل مشاكلهم، ويحضر في معظم المناسبات الاجتماعية، وأصبح يُطلق عليه لقب الحاج؛ لأنه يحج ويعتمر كل سنة ونادرا ما تفارق المسبحة يديه.