وهم المعرفة

فوزي عمار

فرق كبير بين المعرفة التي تجدِّد نفسها والأيديولوجيا الجامدة؛ فمن المسلَّم به أن الأيديولوجيا لا تُنتج خطابا مضادا لها، ورغم الدور المهم للأدلجة في التعبئة وراء المشروع السياسي، إلا أن مشكلتها عدم خلق وعي نقدي خاص بها -مثل المعرفة- الذي يُصحح إنتاجه ويتجاوز أخطاءه؛ وبذلك يتجدد ولا يتجاوزه الزمن.

ومشكلة طرح الأدلجة أنها تصل إلى نهايات دون مقدمات صحيحة، وبينما يطرح العقل إنتاجه في الإطار النسبي ترى الأدلجة إنتاجها أنه المطلق والنهائي والأبدي والأخير، ومن هنا لا تواكب العصر وتقع في فخ الحياة في الماضي بديكور الحاضر، وتلجأ للغة، وتستنجد بالخطابة والتخوين وسجع الكهان، وكل وسائل الهجوم دون إقناع أو نتائج حقيقة على الأرض.

ورغم أن الأيديولوجيا تمثل معرفة أيضا، بل وسميت بعلم المعرفة، إلا أنَّ الاسم لا ينطبق على المسمى، والدال لا يدل على المدلول إلا اصطلاحا، أو نوعا من أنواع "اعتباطية العلاقة" إن شئت القول!

من جهة أخرى، المعرفة إذا لم ترتبط بالأخلاق فلا خير فيها؛ فقد استعمل الغرب البارود لقتل سكان أمريكا الأصليين، وأوروبا المسؤول الأول عن نهب أموال الدول الإفريقية خلال فترة الاستعمار، كما أنها مارست لسنوات عدة سياسة الاستقطاب، وتسببت ماكينتها الإعلامية الضخمة والبروباجندا (الدعاية) الغربية، في تقديم الغرب على أنه النعيم الأرضي!

فاليسار في أوروبا هو الذي ألهم الكثير من الثورات في إفريقيا، والرأسمالية الغربية هي التي استنسخت منها الأحزاب الإفريقية برامج عملها، ففشل اليسار الإفريقي واليمين معا في تحقيق مشروع نهضوي وتنمية مستدامة في إفريقيا.

لقد شاهدنا انتفاضة في الشارع الفرنسي والأمريكي مؤخرا، جاءت في حقيقتها لتجديد المشروع الرأسمالي الذي أصبح مؤدلجا أكثر منه مشروعا معرفيا، وابتعد كثيرا عن الأنسنة والأخلاق والقيم.

أما عندنا في الشرق، فإنَّنا نخلطُ بين الأدلجة والمعرفة؛ فقد عشنا لفترة طويلة في وهم الأدلجة التي تطرح في شكل المعرفة؛ فلم نتقدَّم بل أعدنا تدوير معرفة قديمة لتجمدنا في ذلك العصر؛ حتى في الشكل بحجة دعاوى المحافظة على الأصل.

------------------------

يقول المفكر الليبي الصادق النيهوم: "الجاهل ليس من لا يملك شيئا.. بل هوم من يملك معرفة سلبية وهو مستعد من أجلها لأن يضرب رأسك ليقنعك بها"!!