الرجل الذي لم يُوقِّع

علي بن مسعود المعشني

تمرُّ الأمة العربية بمنعرجات ومنعطفات مُختلفة في مراحل تاريخها المعاصر، أشبه ما تكون بمؤشر تخطيط القلب، وهو مُؤشر في مُجمله خطير ومُؤرِّق لأعداء الأمة، وطابورهم الخامس من الحالمين بالإجهاز عليها، أو إفقادها مناعتها لتمرير غيهم وأحلامهم المريضة المتجددة منذ بواكير عهود الاستقلال الأولى للدولة القُطرية العربية. وفي المقابل، يرى الغيورون والشرفاء من أبناء الأمة أنَّ ذلك المؤشر يحمل رسائل مهمة بمستقبل واعد للأمة، رغم كل مظاهر الوهن والفرقة والشتات اليوم؛ لأنَّ ذلك الوهن لن يدُوم، وقوة الخصوم لن تدوم كذلك، والأيام دُول بين الناس والأمم.

لهذا؛ عرفتْ الأمة في تاريخها المعاصر نضالات متعددة بالفكر واللسان والقلم والسلاح، كل من موقعه وبقدر ومنسوب شعوره بحاجة الأمة ومكانتها، والغبن الذي وقع عليها، وبقدر ومنسوب استشعاره لحجم المؤامرة ورموزها وتأثيراتها.

من يقرأ التاريخ يقرأ المستقبل.. هكذا كان واقع الحال لمن استشعروا مكانة الأمة العربية، وحجم التآمر عليها، من المناضلين والشرفاء الغيورين على حالها؛ فهم قرَّاء حقيقيون للتاريخ بكل فلسفته وأبعاده ومراحله؛ لهذا أدركُوا وبعُمق مفاصل الضعف والقوة، ومرامي الأعداء وأدواتهم، ولم تُرهِبهم عُدة الأعداء، ولا عتادهم، على اعتبار أن التاريخ مليء بالوقائع والأحداث التي تُبرهِن على أنَّ كَم مِن فئةٍ قليلةٍ مُستضعفة غلبتْ فئةً كبيرةً مُستكبِرة؛ لأن الصراع في عمقه ولبه صراع حق وباطل، وصراع إرادات، قبل أن يكون صراعَ عتاد وعدة.

وأُمتنا العربية في تاريخها المعاصر، وبعد خروجها من عباءة الاحتلال العثماني التركي، ثم الاحتلال الاستعماري الغربي، عرفت الكثير من مفاصل التآمر؛ مُمثلة بـ"سايكس بيكو"، و"وعد بلفور"، و"الكتاب الأبيض الإنجليزي"، وصولًا إلى غرس الخنجر الصهيوني في قلب الأمة -فلسطين- كمُعِيق حضاري بشع، وماض يتم سقيه ورعايته من قبل مُحتلِّي الأمس وأعداء اليوم، لينُوب عنهم كقاعدة متقدمة في قلب الأمة، ويمارس دور المحتل والغازي الهمجي، والأمر الواقع المدعوم من قبل قوى الاستكبار العالمي. ونتيجة لكل هذا، يأتي الخصم والحكم -وهو الغرب- ليُمَارس دور الإكراه والقسر والترهيب والترغيب على الأمة للقبول بهذا المسخ اللقيط كعضو طبيعي في جسدها الطاهر ومكون رئيس لها، مُستغلًا حالات الوهن والشتات، وأعراض سايكس بيكو وثقافتها ونتائجها، وعلى رأسها الدولة العربية القُطرية، والتي لاحول لها ولا قوة، ولا خيار سوى الإذعان والرضوخ لوصاية وتعليمات "السيد" الغربي. فقد نَسِي وتجاهل هذا الغرب النرجسي أنَّ في الأمة رجالًا استلهموا من تاريخ أمتهم المجد والعصيان والمناعة والكبرياء، فتسلحوا بإرادة الأمة ومشيئة الله ووعده لها كخير أمة أخرجت للناس، فواجهوا الغرب بفكرهم وأقطارهم، وتحملوا في سبيل ذلك الكثير من المتاعب والمصاعب هم وأوطانهم، لكنهم مدركون تمام الإدراك أنَّ هذا الأمة تستحق الكثير من الدماء والمداد والمال والبنين لتسترد كرامتها ومكانتها.

إنَّ كلَّ قُطر عربي اليوم فرز نفسه وحدَّد هُويته وقرَّر مصيره بين أن يكون كيانًا سياسيًّا مُستقلًا عن الأمة، واقعًا ومصيرًا، وينظر للأمة وقضاياها المصيرية كنظرته إلى قضايا كشمير وتيمور الشرقية؛ إيثارًا لسلامة منقوصة، وطمعًا في استقرار قلق يهبه السيد الغربي له إلى حين، وبين من اختار أن يكون إقليمًا فاعلًا بداخل كيان شتات وممزق، مستشعرًا حاجة الأمة وأحقيتها في نضال وتضحيات حقيقية. ومن محاسن القدر أنَّ التيار الثاني تشكل وأعلن عن نفسه بقوة وجلاء منذ عهد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر، والذي أورث بدوره التاريخي ثقافة نضال عابرة للحدود والأجيال، ومشعلًا حمله من بعده بالنسبة والتناسب، وبحكم الظروف والممكنات كلٌّ من معمر القذافي وهواري أبو مدين وصدام حسين وحافظ الأسد؛ حيث شكَّل هؤلاء الزعماء امتدادًا لزمن التحدي والكبرياء العربي، ودفعوا في سبيل ذلك الكثير والكثير من التضحيات المادية والمعنوية كأفراد وأقطار وشعوب، وهم يدركون كل ذلك. رحلوا جميعهم، لكنهم تركوا آثارًا ومشاعلَ تهتدي بها الأجيال وتصونها وتجددها بحسب مقتضيات العصر، ومقتضيات النضال وقواعد الصراع.

لعلَّ أبرز هذه الأسماء وأكثرها تأثيرًا وحضورًا هو الزعيم الخالد حافظ الأسد، هذا الزعيم الذي بقي وحيدًا في الساحة رافضًا الإذعان للغرب وهيمنته، والتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب بدهاء شديد.

حين نتحدَّث عن حافظ الأسد اليوم، فنحن نتحدث عن زعيم عربي متفرد في عقله وفكره ورؤيته الثاقبة البعيدة ومهاراته الاستثنائية في إدارة الصراعات والأزمات والقفز فوق الشراك والأفخاخ المنصوبة له بدهاء عبقري يفوق الوصف والتشبيه والخيال كذلك. فهذا الزعيم الذي راهن على المستقبل والحق العربي، ورفض التوقيع والالتحاق بكامب ديفيد، وبقي وحيدًا في مواجهة العدو بعد خروج مصر من معادلة القوة والمواجهة، برهنتْ الأحداث والنتائج اليوم أنَّ عبقريته ورهاناته دقيقة للغاية؛ حيث طوَّع الواقع وكسب رهان المستقبل بكل معطياته، ولم يهن لحظة أو ينكسر أمام حملات الترهيب والترغيب التي مورست ضده وضد سوريا حتى لاقى ربه وسلم المشعل لابنه بشار؛ فالواقع اليوم هو من يتكلم عن نتائج التطبيع في مصر والأردن، وعن نتائج الرفض في سوريا كسيادة وتأثير وكرامة.

حلم الغرب وأعوانه، وراهن معهم الطابور الخامس بسوريا على رحيل الأسد الأب كعقبة ومناعة لسوريا والأمة لتمرير مُخططاتهم ونزواتهم من بعده، وجزموا بأن البديل لن يكون بدهاء وحنكة حافظ الأسد؛ فصدموا حين تيقَّنوا بأن بشارًا أدهي من أبيه!! لهذا كان قرارهم ومخططهم الشيطاني بتدمير سوريا عام 2011 كآخر قلاع المقاومة والعصيان والتحدي والكبرياء العربي؛ فكانت صدمتُهم الكبرى حين تبيَّنت لهم قوة سوريا وتماسكها وحجمها في الضمير العربي والعالمي، هذا الضمير الذي وقف إلى جانب سوريا، وأفشل المخطط، وبعثر الأوراق والأطماع معًا، وأزال الخطر، وعُوفِي المجد إذ عُوفيت دمشق؛ فدمشق محور الكون والمساس بها يعني التشظي لعوالم كثيرة مرئية وغير مرئية.

وبالشكر تدوم النعم...،

----------------------

قبل اللقاء:

"أن تكون عربيًّا فهذا قدرك، أمَّا أن تكون عروبيًّا فهذا قرارك".