محمود المسلمي.. الإذاعي الذي "يحس ولا ينفعل"

 

محمد السعداوي
كانت كلماته تأتي عبر الأثير صافية وندية معا، تسمع صوته العذب جامدا مرحا في آن واحد، ما زالت أجيال الثمانينيات من القرن الماضي تتذكره، وميكروفون إذاعة سلطنة عمان يشتاق إليه، عندما كان يبدأ برنامجه "شمس الأصيل" فيقول في مقدمته عباراته الشهيرة: الإذاعة العمانية تقدم (بشعاع من نور شمسنا الراحلة نخط هذه الخواطر على عباءة المساء، برنامج يكتبه ويقدمه محمود المسلمي.
ليس الأصيل غروبا فحسب إن الأصيل شروق أيضا...).

de58865a-e87f-4160-accd-c9cbcec86a6e.jpeg
 

كان محمود المسلمي جزءا من الإعلام العماني، بل حلقة ذهبية في سلسلة الحلقات المترابطة والممتدة عبر تاريخ الإذاعة في سلطنة عمان، قدم إلى عمان محب لشعبها، شغوفا بميكروفون إذاعتها يقول عن تجربته في عمان: "مرحلة العمل في إذاعة سلطنة عمان كانت من ١٩٨٤ إلى ١٩٩٠ وأطلق على هذه المرحلة مرحلة النضج، فإذاعة عمان وقتها كانت كالأرض البكر وقد رحبت كثيرا بكافة الأفكار التي قدمتها، وأستطيع القول أني انطلقت في عمان من ناحية تقديم البرامج وطرح الأفكار الغزيرة والمتنوعة ولي فيها العديد من الذكريات الجميلة التي لا تنسى".
يتحدث الاعلامي محمد المرجبي عن المسلمي فيقول (محمود المسلمي كان جزءا من الاعلام العماني... ولم تنقطع علاقته بعمان التي يحبها والتى سوق لها في بي بي سي بطريقته... كان ثريا وهادئا وصاحب صوت جميل يجبرك على الإنصات... استخدم اللغة العمانية القح بحب في أحيان كثيرة...).
ويتحدث محمود المسلمي عن عمان وذكرياته بها - وما الذي تركته سلطنة عمان من أثر في حياته الإنسانية والعملية: "عُمان بلد لا يُنسى ولقد أثرت في تأثيراً كبيراً سواء على المستوى المهني أو الشخصي، ولقد قدمت فيها برامج عديدة مثل برنامج (رحلة مع الأيام) و(شمس الأصيل) كما شرفت بالاشتراك في تقديم (البث المباشر) في انطلاقته، وقدمت برنامج (وتر وشجن) الذي كان عبارة عن مجموعة من الكتابات الشعرية، وكان أكبر تحدٍّ بالنسبة لي مهنيا أن أقدم برنامجا عمانيا بالطعم العُماني وهذا أمر ليس سهلا. وفوق كل هذا كان الاستمتاع بالثقافة العمانية، والتعرف على الحياة الأصيلة للعمانيين، حتى أني قدمت حلقة كاملة عن الشعر النبطي لقصيدة كانت للسيد فاتك بن فهر آل سعيد وقدمتها باللهجة العمانية الصرفة وهو ما أشاد به بنفسه وحازت إعجاب المستمعين".  
ويقول المسلمي "ومن التجارب التي لا أنساها في عمان أني قمت بالتمثيل مع الفنانة المتميزة فخرية خميس في برنامج المسرح العالمي. فهذا البلد له أصالة وحضارة وتاريخ مميز وهذه المرحلة من أمتع المراحل التي عشتها في حياتي، كما أذكر أيضا أن زوجتي الإعلامية عزة الزفتاوي قدمت العديد من البرامج في السلطنة حتى أنها كانت أكثر مني تخصصا في تقديم ما يخص الشأن العُماني، ولنا العديد من الصداقات العائلية والأسرية في عمان والمستمرة حتى وقتنا الحالي".
ومن أهم المحطات التي مر بها المسلمي في عمله ومسيرته المهنية وأجمل ذكرياته يتحدث في لقاء أجرته معه مروة حسن فيقول: "المحطة الأولى بدأت من سنة ١٩٧٥، وهي محطة الإذاعة المصرية وهي تعتبر محطة التأسيس والتربية ومحطة الانطلاق لكل ما تلاها من محطات، وهذه المحطة تعلمت فيها الأصول الإذاعية، وتقابلت فيها مع مختلف الشخصيات من نجوم الفن والأدب والثقافة، فقد كان وقتها من العادي أن نرى بشكل مستمر نجيب محفوظ ويحيى حقي وتوفيق الحكيم ونور الشريف وغيرهم من عمالقة الفن والأدب، وكان ذلك يمثل بالنسبة إلينا نوعا من الزخم الثقافي الرائع".
أما المحطة التي تلت الإذاعة المصرية فكانت محطة إذاعة صوت العرب "وهذه عززت بداخلي الجانب القومي والاهتمام بقضايا العرب، وتشبه صوت العرب الـ"بي بي سي" في أنها إذاعة للبانوراما العربية أي أنها لكل الدول العربية، وما تعلمته واستفدت منه في هذه الإذاعة أنني تقريبا لم أترك برنامجا إلا وعملت به، أي أنني عملت بكافة أنواع البرامج الإذاعية ولم أقتصر على تقديم الأخبار، بل قدمت برامج للأطفال والأسرة وغيرها".
ثم جاءت المحطة التي تليها وهي العمل في إذاعة سلطنة عمان وكانت من ١٩٨٤ إلى ١٩٩٠ وقدسبق الحديث عنها بالفقرات السابقة.
ثم أتت محطة العودة لصوت العرب مرة أخرى وكانت لعام واحد من ١٩٩٠ إلى ١٩٩١ وقد عدت للعمل بها قبل غزو العراق بأسبوعين فكانت فترة عصيبة شهدها الوطن العربي وقتها وكانت لأول مرة الإذاعة تعمل لمدة ٢٤ ساعة متواصلة وشملتها مواضيع غزيرة وأخبار ساخنة. لذا؛ كان عاما حافلا بكل ما تعنيه الكلمة. ومن ١٩٩١ وإلى الآن اعمل في الـ«بي بي سي» وهذه المحطة عنوانها العمل في ملعب مغاير كثيرا لما اعتدته، فهي أتت بعد فترة التأسيس والنضج، وهي مدرسة مختلفة ومميزة من حيث سياستها التحريرية وأسلوب العمل فيها لكني حاولت فيها أن أمزج بين خلفيتي في مصر وعمان وبين طبيعة العمل فيها.
محمود المسلمي عندما يقرأ فهو يعزف سيمفونية من الكلمات، كلماته كانت كالرخام المصقول المصفوف بيد فنان، في برنامجه على إذاعة بي بي سي كانت كلماته مزيجا بين الشكر والتقدير والامتنان لمستمعيه فيبدأ دائما بعباراته التالية:
"ثم لكم أنتم رصيدنا الأكبر والأعز يا مستمعينا الأعزاء، تحية لوفائكم ومحبتكم وإخلاصكم.. كل الشكر والتقدير والامتنان على مر هذه المسيرة، أنتم الركن الركين في مسيرتنا.. لا يمكن أبدا أن نفرط في هذا الزخم الرائع، نبادلكم حبا بحب ووفاء بوفاء واعتزاز باعتزاز.. هنا لندن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية".
ومن أشهر أقواله (المذيع يحس ولا ينفعل) ويروي المسلمي في ذلك واقعتين؛ يقول: "أثناء تقديمي عندما كنت في إذاعة صوت العرب أثناء فترة اغتيال الرئيس السادات- رحمه الله- واختير مذيع من كل محطة وكنت أنا من تم اختياره من صوت العرب وكان موقف صعب علي مواجهته خاصة وقت الجنازة؛ حيث كنت أقوم بقراءة تقرير عن الحدث وكان تقريرا مكتوبا بشكل عاطفي للغاية وبعد جملة أو اثنتين أوشكت أن يختنق صوتي بالبكاء، وهذا ضد الحرفية كما تعلمت من أساتذتي، لذا حاولت أن أفصل مشاعري وأكمل التقرير دون أن يبدو تأثير ذلك علي، أيضا من المواقف المؤثرة التي واجهتني كان زلزال ١٩٩٢ الذي حدث في مصر وأودى بحياة المئات وكنت وقتها في الــ"بي بي سي"، وكان الموقف صعبًا أيضا؛ حيث كان يأتي إلي كل دقائق تقرير جديد بعدد جديد من الضحايا وكان أمرًا محزنًا للغاية، ولكن هناك قاعدة ذهبية دائما أرددها لتلاميذي وهي أن المذيع يحس ولا ينفعل، لأنه في كل الأحوال إنسان وإحساسه سيجعل تقديمه فيه روح وحياة ولكن يجب أن لا يُظهر انفعالاته للمتلقي، وهذه من أكبر التحديات التي تواجه المذيع عموما.
المسلمي كان معلما وأستاذا ومدربا، وُلد محمود المسلمي في محافظة الشرقية بمصر عام 1948، وتخرج في كلية التجارة جامعة الزقازيق، ورشحه الى العمل في بي بي سي الإعلامي المصري القدير محمود سلطان، حيث استمر في العمل بها منذ العام 1991 إلى العام 2024م حتى توفاه الله في لندن، وكان آخر صوت يُسمَع في إذاعة بي بي سي العربية قبل إغلاق بثها الإذاعي الذي استمر 85 عاماً، وهو متزوج من الإعلامية المصرية عزة الزفتاوي.
وإلى جانب عمله كمذيع وكبير المذيعين، كان المسلمي معلما ومدربا لكثير من الإعلاميين في العالم العربي والإذاعات المختلفة.
وحصل على عدد من الجوائز منها:
•    الإعلامي المتميز من اتحاد إذاعات الدول العربية
•    الشخصية الإعلامية العربية الأكثر تأثيراً من مجلة أربيان بزنس.
•    أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم- مجلة تايمز الأمريكية.

رحم الله الأستاذ محمود المسلمي وجعل أعماله في ميزان حسناته وقد نعاه كثير من الإعلاميين في مصر وعمان والعالم العربي، وأذكر منهم الأستاذ سليمان المعمري الكاتب والروائي العماني الذي كتب عنه مقالا في جريدة عمان اختتمه بهذه الفقرة:
"وإذن، فقد رحل «صديقنا الوحيد»- نحن المستمعين- بعد عام واحد فقط من رحيل محبوبته إذاعة البي بي سي، وهذه إشارة قدرية أولى. رحل مساء الأربعاء الرابع عشر من فبراير، بعد يوم واحد فقط من الاحتفال باليوم العالمي للإذاعة، وهذه إشارة ثانية، وكان رحيله في يوم عيد الحب، وهذه إشارة ثالثة. وعزاؤنا الوحيد أننا سنظل نتذكره بالحب وبالامتنان الشديد".

تعليق عبر الفيس بوك