آكلو الخبز الحافي!

د. سيف المعمري


يبدو أننا أمام ملف شائك جدا؛ ألا وهو عمل العمانيين في القطاع الخاص، هذا القطاع الذي باتت الدول تنظرُ إليه على أنَّه القطاع الواعد للتوظيف، في ظلِّ محدودية قدرة القطاع العام على القيام بهذه المهمة، إلا أنَّ هذا الطموح الموضوع لهذا القطاع يبدو محفوفا بالصِّعاب والتحديات، التي ربما يدفع ثمن معظمها أولئك الذين وجدوا أنفسهم مُضطرين للعمل فيه.
لا أقول هذا تقليلا من منطقية توجه الشباب إلى هذا القطاع لمطاردة أحلامهم في العمل والحصول على لقمة العيش من شركات ومؤسسات هذا القطاع، الذي قام من البداية لغير العمانيين من ذوي الرواتب المحدودة جدا؛ فحين بدأت الحكومة تطالب هذا القطاع المشاركة في التوظيف نتيجة الدعم الذي تقدمه له، والذي ينكره بعض من أصحاب الأعمال أو يقللون منه لا أعرف لماذا، ولكن ذلك ربما لمواجهة أية ضغوطات تطالبهم بتوظيف العمانيين، وحين ألحَّت الحكومة على ذلك، أصرت هذه المؤسسات التجارية الكبرى على قبض ثمن نظير لذلك على شكل أموال للتدريب، وتسهيلات في استقدام العمالة، وأوليات في المشتريات أو المناقصات، كل ذلك من أجل توظيف العمانيين في وظائف محدودة الدخل عادة ما تدفع العمانيين إلى ترك وظائفهم؛ فما الذي يمكن أن يفعله العماني براتب أقل من 500 ريال في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تنحى إلى رفع أسعار رسوم الخدمات، والبنزين، والإسكان، ومضي الوقت نحو خصخصة الخدمات التي تتطلب من المواطن أن يدفع في كل مكان، ماذا نفعل بمواردنا البشرية إذا كنا سنتركها فريسة لتوحش القطاع الخاص؟
قد تبدو صيغة السؤال استفزازية، إلا أنها ليست باستفزازية الإحصائية التي نشرها المجلس الوطني للإحصاء، مؤخرا، وعرضت لها جريدة "الرؤية" في عددها رقم (2399) الصادر يوم 26 يوليو 2018، تحت عنوان "53% من العمانيين العاملين في القطاع الخاص يتقاضون أقل من 500 ريال عماني".
وحين نتناول تدني رواتب العمانيين العاملين في القطاع الخاص لا يعني ذلك أنها الإشكالية الوحيدة التي يُواجهونها؛ حيث توجد مجموعة من الإشكاليات، إلا أنَّ المقام لا يستسيع هنا لتناولها رغبة في تحليل هذه الإحصائية الصادمة جدًّا لنا جميعا، وأحسب أنها كذلك للمسؤولين الحكوميين ومتخذي القرار وأعضاء المجالس البرلمانية الذين يتنقلون من ندوة إلى أخرى خلال الفترة الأخيرة مستعرضين أهمية مجالسهم للمواطنين، ولا أهمية أكثر من هذه المسألة ذات البعد الإستراتيجي للأمن الاقتصادي للمواطنين المطلوب منهم التوجه إلى القطاع الخاص، لكن ما معنى أن الشريحة الكبرى من مجموع العاملين في هذا القطاع والذين يصل عددهم إلى 246 ألفا تتقاضى رواتب أقل من 400 ريال عماني، أي يشكلون ما نسبته 30.8%، ويتقاضى 55 ألفا منهم راتبا أقل من 500 ريال عماني أي ما نسبته 22.3%؛ وبالتالي فإن ما مجموعه 53% من العاملين في هذا القطاع يتقاضون رواتب أقل من 500 ريال عماني، وما تبقى لدينا هو 47% من العاملين منهم 25 ألفا يتقاضون رواتب أقل من 600 ريال أي بنسبة 10%، و21 ألفا منهم يتقاضون رواتب أقل من 700 ريال وهم يمثلون 8.5% من مجموع العاملين. أما الذين يتقاضون رواتب أقل من 800 ريال فيبلغ عددهم 12 ألفا أي ما نسبته 4.8% من مجموع العاملين. أما الذين يتقاضون راتبا أقل من 900 ريال فيبلغ عددهم 9 آلاف عامل، أي 3.65% من مجموع العاملين، والذين يتقاضون راتبا أقل من ألف فيبلغ عددهم 7 آلاف، أي ما نسبته 2.8%، في حين نجد أن عدد الذين تتراوح رواتبهم بين 1000-أقل من 2000، يبلغ 27 ألفا؛ أي ما نسبته 10.9%.
بكل تأكيد النسب السابقة نسب متدنية جدا لا توحي بأن مستقبل العمانيين في هذا القطاع يمكن أن يقودهم إلى وظائف متوسطة وعليا، يمكن أن يحصلوا منها على رواتب مناسبة مع مثابرتهم وجدهم ومؤهلاتهم أو على الأقل يمكن أن تكون مقبولة إن قورنت بنسبة الذين يتقاضون نفس الراتب من العاملين الوافدين في هذه المؤسسات الخاصة؛ فماذا تعني هذه الأرقام ونحن أكثر من غيرنا نعطي أهمية للرقم، ونبحث دائما عن صعوده، ولكن نتجاهل انخفاضه، ولا نلتفت إليه، إلا إن كانت مناقصة فلا بد أن نرفع فيها الرقم ونضاعف من الأصفار على يمينه، لكن ماذا عن هؤلاء الشباب الذين يتقاضى 89% منهم رواتب أقل من ألف ريال بعد أربعة عقود من تعليق الآمال على القطاع الخاص، وتصويره على أنه الجنَّة البديلة للقطاع الحكومي، أين التقدم في هذا الملف أيتها المؤسسات المسؤولة عن أوضاع العمال العمانيين في هذا القطاع؟ وإلى متى سيظل شبابنا يأكلون الخبز الحافي من القطاع الخاص؟
إن هذه الإحصائية لا يجب أن تكون معلومات دورية يبثها المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، ولا تعني أحدا؛ لأنها تحمل مخاوف إستراتيجية على الجميع الدولة والمواطنين؛ فالدولة لابد أن تسجل مؤشرات نجاح وتقدم في مؤشر الرواتب حتى تقنع المواطنين بأن هذا القطاع مكانا آمنا للعمل والحياة، ولابد أن تحافظ على عدم اختطاف القطاع الخاص واغتراب العمانيين بداخله؛ لأن الذي يعمل براتب متدنٍّ بهذا الشكل هو مثل العامل المغترب لا فرق بينهما، بل إن الأعباء على العماني أكبر لرغبته في امتلاك أرض وسكن وسيارة، وكل ذلك له تكاليف الباهظة، أما المخاوف على المواطنين فهي ذات بُعد اجتماعي عميق جدًّا؛ فهؤلاء سوف يشعرون بأنهم مقصيون بدون مظلة أمان لهم تكفل لهم الدخل الذي يتناسب مع التحولات الاقتصادية؛ وبالتالي سيضر بصحتهم النفسية، ويجعلهم شيئا فشيئا موارد بشرية هشة وضعيفة تتعرض للاستغلال نتيجة انخفاض الأجور، وسوف ينتج عن ذلك خلخلة في القطاع الخاص، خاصة مع توالي الإجراءات الاقتصادية منها فتح باب التملك للأجانب، وفتح الاستثمار الذي لا يقود إلا إلى منح العمانيين مزيدا من الوظائف ذات الدخول المتدنية؛ وبالتالي يتحول العماني إلى وسيلة لتيسير مرور عقود الاستثمار أو إلى مرور طلبات الترخيص للعمال إلى غاية؛ وبالتالي نحن أمام إشكالية وطنية عميقة جدا نعيشها منذ سنين وتتفاقم، ولكن في ظل ظروف اقتصادية أصعب، فأين العقل الإستراتيجي الاقتصادي؟ وأين المؤشرات على حُسن التعامل مع هذا الملف الشائك؟ وما الذي ينتظر خيرة شبابنا الذين نستثمر فيهم أكثر من مليار ريال سنويا؟ هل سيكون مصيرهم إلى وظائف ذات دخول متدنية بعد دراستهم؟... أسئلة عديدة ليس القصد منها إشغال المعنيين في إجازة العيد؛ لأنها أسئلة مستمرة منذ عقود، وكل عام والجميع بخير.